باسل غطاس *
كما عبد الناصر، كذلك فيروز والرحابنة

ما إن أعلن عرض مسرحية «صح النوم» في عمان في الثاني والثالث من الشهر الجاري، كان قرارنا القاطع، زوجتي وأنا، أنّنا سننفّذ هذه المرة عهداً قديماً قطعناه على أنفسنا بأن نكون في حضرة فيروز ولو لمرة في حياتنا. غمرتنا السعادة بأننا سنقوم بذلك معاً مع ابنتنا، ابنة السابعة عشرة التي استطاعت المزاوجة بين حب عميق وواع لفيروز والفن الأصيل، وإلمام ماهر بكل ما استعصى على والديها فهمه من تشويشات الغناء الحديث.
بالنسبة إلينا، كان حُبّها لفيروز والفن العربي الأصيل من مُقوّمات تشكيل هويتها العربية الفلسطينية في مواجهة حملات التجهيل الإسرائيلي المُبرمَج من جهة، والعولمة الغازية عبر الإنترنت من جهة أخرى.
أدركنا من اللحظة الأولى ــــ مثل غيرنا من عرب الداخل ــــ أنّ تنفيذ هذه الرغبة التاريخيّة مَنُوط بعناء السفر عبر الجسر الفاصل بين فلسطين التاريخيّة والأردن، مع آلاف المسافرين، مع كلّ ما قد يواجهنا من مشقات الوصول والدخول إلى القاعة، إضافة الى العبء الماديّ الذي لا يستهان به. كنّا ندرك أيضاً أنّ كل ذلك سيتحوّل تفصيلاً صغيراً لحظة رفع الستارة وبدء تلك التجربة. وهي لعمري من الطقسية والقدسية مما يصعب فهمه لدى مَن لم يعرف معنى فقدان الوطن، بما هو مشروع حضاري ثقافيّ حداثويّ، فيما أنتَ مُقيم فيه أقلية مهمّشة ابتلعتها الأكثرية التي سرقت الوطن.
كما كان عبد الناصر في السياسة، كانت فيروز والرحابنة ـــ غناءً ومسرحاً ـــ بالنسبة إلينا بمثابة القابلة الطبيعية لعلاقتنا التي كادت تكون مستحيلة مع أمتنا خلف الحدود، ونحن الجيل الأول بعد النكبة نقبع داخل جدران الخوف والشكّ والتشكيك. من المثير التفكير ــــ بعيداً عن عواطف اللقاء الغزيرة ــــ أنه إذا كانت حرب الـ 67 بنتائجها الوخيمة قد جمعتنا مع جزء من شعبنا الفلسطيني وأعادت لنا بعض الاعتبار والاعتراف، موقعاً وأدباً وهويةً، فقد أتاح لنا السلام المذموم مع مصر والأردن لاحقاً إمكان التواصل الحقيقي والحميم مع أمتنا العربية، فنّاً وثقافةً. إنها مفارقة وجدلية التّضاد التي حملتنا صاغرين راضين فرحين إلى فيروز ومسرحية «صحّ النوم»، غير عابئين بما فعل الدهر بصوتها... وبما قد فعله زياد بمسرحيتها. فلم نكن نبغي سوى استرداد بعضَ ما حُرمنا منه في مهرجانات بعلبك ومعرض دمشق، وأن نقبض على لحظات من النشوة مغمضين أعيننا على عقود من الحرمان والظلم والقطيعة القسرية. فلا تعجبوا لتسلّل الدموع عند مجيء صوتها صافياً بلورياً يلامس غشاء القلوب، وعندما تدفق الحوار والحضور الطاغي للفنانين الكبيرين أنطوان كرباج وإيلي شويري.
المفاجأة السارة كانت لأولئك الذين حضروا مع توقعات متواضعة، فقد كان العرض ناجحاً ومميّزاً بكلّ المقاييس. وقد تألقت فيروز غناءً وتمثيلاً، وجاءت المسرحية مُعبّرةً وحيويةً وذات مَغازٍ معاصرة، وإن كانت نهايتها المعروفة سلفاً مثالية... أي رحبانية بامتياز.
* كاتب من الأراضي المحتلّة عام 48