بيار أبي صعب
• عن موت الروح، وسقوط الأوهام والحروب (المقبلة)

بعد ربع قرن على«بيروت اللقاء»، يعود برهان علويّة إلى الجرح نفسه الذي بنى عليه أبرز محطات تجربته الإبداعيّة. فيلمه الجديد «خلص» الذي انتظرناه طويلاً، يخرج بعد أيام إلى الصالات، معيداً تسليط الضوء على إحدى أهمّ تجارب السينما اللبنانيّة. سينما طالعة أساساً من رحم الحرب الأهليّة التي لم نتخلّص بعد من أوزارها

لا شكّ في أن برهان علويّة (١٩٤١) هو سينمائي الحرب اللبنانيّة بامتياز. سينمائي الضمير المعذّب والوعي الشقي، الباحث بين منافي الداخل والخارج عن معنى للانتماء، والمدينة، والوطن، والقضيّة، والإنسان، والأفكار الكبرى... كل أفلامه، تدور حول تلك الحرب بمعناها الأوسع: بما فيها باكورته الروائيّة الطويلة «كفرقاسم» (المجزرة الإسرائيلية التي ارتُكبت عشيّة العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦، كيف يستعيدها عام ١٩٧٤، في مناخات بيروت الخصبة والمتأجّجة على أبواب الحرب، مخرج لبناني شاب عائد من أوروبا حيث درس السينما في بروكسيل، معهد الـINSAS، وشهد ثورة الطلاب في أيار /مايو ١٩٦٨ في باريس؟)، ومروراً بفيلمه عن تجربة المعماري المصري حسن فتحي («لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء» ــــ ١٩٧٨)، ثم بعدها بسنوات إعادة النظر المؤلمة بحلم «السدّ العالي» («أسوان ــــ ١٩٩١)، وأخيراً «حرب الخليج... ماذا بعد؟»(١٩٩٢ ــــ ١٩٩٣).
أفلام برهان الأخرى محطات مترابطة في تلك الرحلة السيزيفيّة الشاقة على جلجلة الحرب الأهليّة اللبنانيّة، بدءاً بفيلمه التأسيسي «بيروت اللقاء» (مع هيثم الأمين ونادين عاقوري، سيناريو أحمد بيضون ــــ ١٩٨٢) الذي طرح للمرّة الأولى في السينما الروائيّة إشكالية تلك الحرب وتناقضاتها وتمزقاتها، من خلال الموعد المجهض بين حيدر المثقف الشيعي النقديلممارسات «الأحزاب الوطنيّة» (هجّر من الجنوب إلى بيروت الغربية)، وزينه البرجوازيّة المارونيّة المتصادمة مع الوعي «الانعزالي» لبيئتها في بيروت الشرقيّة. يومها بنى الديكور الداخلي للحرب، من خلال فيلم فاسبندريّ الإيقاع (نسبة الى السينمائي الألماني الشهير)، لا نرى فيه مشهداً حربياً واحداً. ثم جاءت سلسلة الرسائل التي رصدت آثار تلك الحرب، بين المنفى القسري، وعزلة الداخل اللذين تأرجح بينهما برهان علويّة طويلاً، على مستوى التجربة الشخصيّة: «رسالة من زمن الحرب» (١٩٨٥)، «رسالة من زمن المنفى» (١٩٩٠)، «إليك أينما تكون» (٢٠٠١).
طوال ربع قرن تفصلنا اليوم عن «بيروت اللقاء»، حاول علويّة القيام بجردات حساب مستحيلة، لا يبقى منها في المصافّ الأخير سوى تلك الحيرة، وذاك الضياع، ينضحان من شهادات متلاحقة على ذلك الانهيار العظيم. حين كان التفاؤل يغرق عدداً لا بأس به من المثقفين والمبدعين المستسلمين لنشوة ما بعدها نشوة، والمراهنين بثقة على طي صفحة الحرب وبناء «المستقبل»، كان صاحب «كفرقاسم» غارقاً في اليأس والتشاؤم، شاهراً أسئلته على شكل رسائل سينمائيّة ١٦ ملم، تشهد على الهوّة الفاغرة التي يرقص على حافتها لبنان، ومعه المنطقة بأثرها.
لذلك حين طال صمته، خفنا فعلاً أن تكون تلك الحرب الكامنة التي لم يشف منها الضمير الجماعي، قد أسكتته نهائيّاً! قلنا برهان رمز لجيل ينسحب بخيباته، بعدما ضاقت المرحلة بأي فسحة لمواصلة المشاريع البديلة المخبّأة بعناية في أدراج السبعينات الذهبيّة... وقلنا فات الأوان وجاء جيل الفيديو بطروحات أخرى، فإذا بالزمن ينزاح وبالنقاش تتبدّل آلياته ومفرداته... لكنّنا أخطأنا لحسن الحظ: ها هو برهان علويّة يعود أخيراً في أجمل حلله، وعند ذروة قدراته السينمائيّة، ولغته المازجة بين الشعريّة والسرياليّة والعبث الهادئ.
«خلص» هو عنوان الشريط الروائي الطويل الذي خرج أخيراً من أسر العلب، لينطلق على الشاشات اللبنانية بعد أيام (ابتداءً من ٦ ك١/ ديسمبر)، ويشارك في «مهرجان دبي السينمائي الدولي» بعد أسبوعين... الفيلم الذي طال إنجازه، وصل متأخراً، ليجد أن كل شيء تغيّر في الاتجاه الذي كان يخشاه برهان علويّة. فإذا به يكتسب بعداً جديداً، غير متوقّع. لقد سبق الواقع استشراف المبدع، ما يجعل من «خلص» عنواناً للمرحلة الراهنة... فيلم عن موت الروح، وسقوط الأوهام، والعودة الى نقطة البداية: على أبواب هزّة جديدة ليست سوى اسئناف للحرب نفسها التي لم تنتهِ يوماً.
يبدأ الفيلم بمجموعة كليشيهات مقلقة: الفتى الفقير ابن القنّاص دهسته سيارة ومات في المستشفى لأنه لا يملك فلوساً. الشاعر الفقير، المسكون بأطياف «الرفاق» و«الشهداء» يريد أن يعرف لماذا ماتوا، تتركه حبيبته لتتزوج رجلاً غنياً، فيمضي الى صخرة الروشة... وماذا بعد؟ لكن السيناريو (شارك في كتابته غسّان سلهب) سرعان ما يأخذنا إلى بعد آخر، فندرك أننا ندور في فلك عالم مجازي ومؤسلب. نحن هنا في فيلم تشويق ومغامرة على طريقة أفلام جان لوك غودار القديمة. ندخل لعبة العنف المؤسلب من خلال انزلاق شابين تطاردهما أشباح الحرب، إلى حجيم بيروت في زمن «السلم الأهلي» والجمهوريّة الثانية. سينمائي وشاعر، مناضلان سابقان لم يخرجا من الماضي القريب، يحاصرهما اليأس والفراغ واللامعنى في زمن «الإعمار» الراهن، فيتحولان إلى «مجرمين»... علماً أن الاخراج يأخذ الصورة والأداء إلى منحى رمزي، بعيد عن الواقعيّة.
أحمد (فادي أبو خليل، لافت!) وروبي (ريمون حصني)، في ليل بيروت إياه، سينتقمان على طريقتهما. تاجر المخدّرات أولاً، ثم مدير المستشفى ومساعده اللذين تركا الطفل وسام يموت... من عمليّة سطو إلى أخرى، سيصبح مع الثنائي رُزم كثيرة من الدولارات. دولارات؟ إنّها المفتاح الوحيد للانتماء إلى بيروت ٢٠٠٠، مدينة الصفقات والفساد والفضائح الماليّة والكاباريه الخليجي... أهكذا انتهت الحرب حقاً، تاركة وراءها شعباً من الذوات المجروحة، وكائنات ضائعة بلا قيم ولا مثل ولا مستقبل؟ القصاص الأجمل سيكون من نصيب المناضل اليساري السابق، والمرتزق الحالي وليم حلاوة الذي سيجبر على شرب زوم أحد كتبه الثوريّة حتى الاختناق. ويجيء دور الخواجة ريمون (رفعت طربيه) ثري الحرب ورمز محدثي النعمة الذين باتوا يملكون كل شيء إلا الذوق طبعاً. لكن في بيت الرجل الذي خطف عبير (ناتشا أشقر) من حبيبها أحمد، ستتوقّف سلسلة القتل المؤسلب، ونجنح إلى نهاية شبه سعيدة، في الحدود التي لا تزال السعادة ممكنة ضمنها.
طبعاً فيلم برهان علويّة في مكان آخر. في الشريط الصوتي طبعاً، في مشاهده ولقطاته وحواراته (ساهم في كتابتها محمد العبدالله). نشير الى اللقطة الثابتة من سيارة الجيب (المسروقة)، وقد نزل منها أحمد وروبي: نراهما يبتعدان في سيارة أجرة صفراء على لحن إحدى أغنيات عبد الحليم. نذكر أيضاً مشهد عشاء القطط على عزف الكمان والشموع بين آثار وسط بيروت (حجر الأساس في المشروع الحريري). كأن أمير كوستوريكا يحوم في الجوار... مشهد روبي والكاميرا على كتفه لحظة ارتكاب الجريمة العاطفيّة التي لن تقع: يصوّر أحمد وهو يهمّ بقتل عبير في عزّ نومها... وهناك عناصر كثيرة: مشهد ليلي في بار Babylon الأسطوري الذي يعتبر من علامات مرحلة صعود الأوهام، تونس (تربط برهان بها علاقة خاصة)، والزجاجة التي رماها أحمد إلى البحر وفيها رسالة الى أخته في أوستراليا...
برهان علويّة هو سينمائي الزمن الضائع بامتياز... والأوهام الضائعة أيضاً. إنّه يختصر السينما اللبنانية بكل نقاط ضعفها، وبكل تجلياتها. من خلال شخصيتين هامشيّتين، يسلّط السينمائي نظرة سوداويّة، مُرّة، على سنوات الإعمار التي حقنت اللبنانيين (ومعهم العرب) بأحلام كاذبة عن السلام الأهلي. ويخرج من الأعماق شياطيننا الجماعيّة الكامنة في بلد الفساد والنسيان والكذب السياسي والتلفيق الأخلاقي. لو أنجز «خلص» في وقته، لكان نبوءة ــــ على طريقة كاسندرا في الأسطورة الإغريقيّة ــــ بالانهيار الوشيك لأوهام السلام والإعمار. لكن الفنّان الرائي وصل متأخراً. لعلّه فضّل الانتظار... مخافة ألّا يستمع إليه أو يصدّقه أحد.

في بيروت ابتداءً من ٦ كانون الأول (ديسمبر)
ميتروبوليس (الحمرا) 03،793065
وصالات أمبير ـ 01،616600