محمد خير
الشاشة الصغيرة تتغلغل في اللاوعي، تحتكر المشهد الثقافي، ويدمن المواطن ـــ المشاهد صورها الموجّهة والانتقائية... هذا الكلام لنائب الرئيس الأميركي الأسبق آل غور الذي ينتقد في كتابه هيمنة «إعلام الدعايات» على العقل الأميركي المعاصر


هي الأولى بلا منافس في مجال الميديا التلفزيونية، فهل بدأت الولايات المتحدة تتململ من التأثير الكاسح للتلفزيون على العقل الأميركي؟ هل أدركت نتائج تعاظم تأثير الشاشة الصغيرة على حساب تأثير الصحافة والتعليم، وما ينتج عن ذلك من «اعتداء على المنطق»، كما يحدّده عنوان كتاب آل غور، الصادر أخيراً عن «بنغوان برس»؟
نائب الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، والرجل المحبوب الذي خسر سباق الانتخابات الأميركية على رغم فوزه بالـ«تصويت الشعبي»، أصدر قبل أشهر قليلة كتاب The Assault On Reason. وقد نقلت الوكالات تحذيره ـــــ شبه الرسمي ـــــ من تغلغل الشاشة الصغيرة داخل الذهنية الأميركية. كما تضمّن توصيفاً لاحتكار، لا تصلح في مواجهته قوانين الاحتكار الأميركية. ذلك أن تلك القوانين أعدّت لمكافحة الاحتكار الاقتصادي، أما الاحتكار الثقافي فلا قوانين تصلح لمواجهة تأثيره الأشدّ خطورة.
منذ ملأت الفضائيات العربية سماء المنطقة، دخل المشاهد العربي عالماً جديداً. وعلى رغم لغة الضاد التي تستخدمها هذه الشاشات، فإن العالم الذي أدخلت إليه مُشاهدها هو عالم أميركي جداً، يتوزع إلى قسمين: يتضمّن الأول البرامج المعرّبة عن الشاشات الأميركية، وهي في معظمها برامج مسابقات لم يعتد عليها المشاهد العربي. فحتى الأمس القريب، لم يعرف هذا الأخير سوى برامج المسابقات التي تستقبل إجاباته عبر البريد العادي. وفي الاستديو، تتكوّم الخطابات في جبل صغير أمام المذيعة الحسناء التي تمدّ يدها فتنتزع خطاباً محظوظاً، يفوز صاحبه برحلة للحج أو العمرة، أو بمبلغ مالي متواضع أو أجهزة منزلية. أما مسابقات الحياة في البرية والمواهب المتعايشة داخل الاستديو، ورقابة الكاميرا لـ24 ساعة، فتلك لم يعرفها مشاهدنا سوى قبل سقوط بغداد بفترة وجيزة، وهو تزامن لا يحمل أي تورية.
تلك البرامج المعرّبة تمثّل القسم الأول من العالم التلفزيوني الجديد. أما القسم الثاني، فيضمّ برامج أميركية، لم تعرّب حتى الآن لأسباب عدة، معظمها اجتماعي. إنما تمت ترجمتها إلى العربية، مع حروف بيضاء صغيرة أسفل الشاشة، ساعدت المشاهد على أن يفهم مثلاً لماذا يتشاجر ذلك السكّير مع رجل الشرطة، وكيف تبادلت الأسرتان ربّتي المنزل، ولماذا امتنع الأهل عن استكمال محاكمة باهظة التكاليف ضدّ الزوج الذي فشلت إدانته بقتل زوجته وصديقها... أفكارٌ لا تنتهي، ومفردات تحمل إلى الشرق الأوسط أحلاماً ومشكلات وتفاصيل البلد الأقوى.
أساليب في الإعداد والإخراج تنجح في تثبيت المشاهد أمام شاشته، محدّقاً في عالم ما وراء المحيط الأطلسي حيث يجلس المشاهد الأميركي لساعات مضاعفة أمام التلفزيون: ففي مقابل متوسط ساعة يومياً لسكان العالم الثالث أمام الشاشة، يذكر كتاب آل غور أن المشاهد الأميركي يجلس في المتوسط، خمس ساعات يومياً. وهي نسبة ترتفع كثيراً عند استيعاب فئات مثل الجيش والشرطة والمشرّدين، إضافة إلى المهن التي لا تتيح لأصحابها الكثير من أوقات
الفراغ.
ربما كان «الاعتداء على المنطق» هو أول الكتب التي تتوجه مباشرة نحو نقد هيمنة «إعلام الدعايات» على العقل الأميركي. ثمة العديد من الكتب والدراسات التي مارست ذلك النقد فرعياً ضمن أطر أوسع، وكانت النقطة المشتركة بين تلك الفعاليات وكتاب غور، هي أحداث 11 أيلول (سبتمبر) ثم حرب العراق. تلك الأحداث وضعت أميركا أمام المرآة، منذ بدأ الصراع السياسي الإعلامي ضد الشرق الإسلامي. وهو صراع، أسهمت الفضائيات العربية ـــــ وعلى رأسها «الجزيرة» ـــــ في جعله طريقاً ذات اتجاهين. إذ استطاع العديد من المهتمين بالشأن الإعلامي، ومراقبي مواصفات الجودة المهنية للميديا الأميركية، أن يمسكوا للمرة الأولى بأدلة مباشرة وآنية، تثبت كم التزييف والانتقائية في المؤسسات الإعلامية الكبرى في بلاد العام سام.
اتضح ذلك بصورة فادحة خلال حرب العراق، إذ نقلت كبرى محطات التلفزيون الأميركية، صورة، هي في أفضل الأحوال موجّهة وانتقائية، وملتصقة بشكل فاضح بالخطاب الرسمي لإدارة جورج بوش. وذلك على رغم الأعداد الكبيرة من المراسلين الحربيين ومندوبي محطات التلفزيون والراديو الأميركية الذين ذهبوا إلى جبهة القتال، إنما من داخل الدبابات الأميركية، واقعياً ومجازياً. هكذا شاركت فعاليات جامعية وعلمية أميركية في مناقشة تلك «التشوّهات الإعلامية»، كندوة استضافتها جامعة جورج واشنطن في العام الماضي لمناقشة «تأثير الانحياز الإعلامي على علاقات الدول الغربية مع العالم الإسلامي». وانتقد معظم المشاركين في الندوة ـــــ نقل تفاصيلها موقع تقرير واشنطن ـــــ التنميط الذي تمارسه الميديا الأميركية لصورة العربي. وهو تنميط يعمل في اتجاهين، فلا يكتفي بزيادة الإلحاح على الصورة السلبية «الإرهابي العربي»، إنما يصنع مقابلها «الإيجابي». وفي هذا الإطار، يعرض مثلاً تقرير، أعدّته شبكة abc، قصة أميركي من أصل عربي يعمل في البيت الأبيض... وهذا هو «العربي الجيد»، كما قال خلال الندوة المذكورة، مدير المعهد العربي الأميركي جيمس زغبي.
المؤكد أن الميديا التلفزيونية الأميركية في أوج قوتها، وهي تتحكم في الملعب بلغة الاقتصاد والمال قبل لغة الإعلام. حتى كتاب آل غور ينتقد نفوذها بحذر، وسيصعب على الكتاب إحداث التأثير المطلوب، لأن معظم من هم منوطون بما جاء فيه، لا وقت لديهم للقراءة، إذ يفضلون قضاء أوقات فراغهم أمام التلفزيون.



إيران والعراق في الواجهة

«إيران والعراق يسيطران على الإعلام الأميركي»، ذلك هو عنوان التقرير الـذي أعدّه محمد الجوهري لموقع «تقرير واشنطن»، ملقياً الضوء على واقع الإعلام الأميركي اليوم، وعارضاً وقائع الندوة التي اهتمّت بها شبكة abc التلفزيونية الأميركية الأسبوع الماضي. الندوة التي عُقدت في الكويت تحت عنوان «الفرصة والأزمة في منطقة الشرق الأوسط»، حضرها وزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول. وقد أكد أنه من المبكر جداً، في هذا الوقت، الحديث عن سلاح نووي إيراني، مشيراً إلى عدم احتمال تنفيذ الولايات المتحدة ضربة عسكرية ضد الجمهورية الإسلامية.
في الأسبوع نفسه، أعدّت «لوس أنجليس تايمز» تغطيةً للملف النووي الإيراني، وتناولت التقرير الذي صدر أخيراً عن المرصد النووي للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وعن مدى التعاون الذي أبدته طهران في إطار الجدل الدائر حول طبيعة برنامجها النووي. وافتتح كريستوفر ديكي مقالته الأخيرة في مجلة «نيوز ويك» بطرح عدد من الأسئلة، في مناسبة التقرير الذي صدر أخيراً عن تقويم التعاون الإيراني مع المجتمع الدولي، في إطار الكشف عن طبيعة برنامجها النووي. وتساءل ديكي: هل القادة الإيرانيون بحاجة إلى العقاب؟ وهل تريد إيران أن ترى قادة الدول العربية متّحدين ضدها؟ وأجاب الكاتب بنفسه عن أسئلته، عندما قال إن الرئيس الإيراني أحمدي نجاد و«عصابته» ـــــ على حد قوله ـــــ لا يعلنون أنهم يريدون ذلك صراحة، لكن اللعبة التي يلعبونها مع المجتمع الدولي، تجعل خطرهم كل يوم يزداد، مهدداً الأمن والسلم في العالم. أما «واشنطن بوست» فقد خصصت إحدى افتتاحياتها الأخيرة للوضع العراقي. وكتبت تحت عنوان «نافذة العراق الضيّقة»، مقالة أشارت فيها إلى أن الواقع يؤكد أن الحرب التي تقودها الولايات المتحدة في العراق، تحقـــــــق بعض النجاحات!