مها كيال
يتفادى عبد اللطيف الحناشي النبرة الانفعاليّة، في كتاب يتناول موضوعاً مرتبطاً بالراهن المتفجّر. ويعيد المؤرخ التونسي قراءة تاريخ العلاقة بين بلاده والقضيّة الفلسطينيّة، في فترة حبلى بالمتغيرات، على قاعدة استقراء الخطاب السياسي الذي لم ينتبه حتى الآن،سوى قلّة من الباحثين، إلى أهميته ودلالاته

ما زالت المسألة الفلسطينية تستحوذ على اهتمام الباحثين العرب: مشرقيين ومغاربة. هذه القضية التي لا تزال الجرح المفصلي الذي تتمحور حوله اضطرابات المنطقة العربية، يبدو حلّها العادل شرطاً أساسياً لدخول المنطقة في الاستقرار المستديم، والتقدم نحو العدالة والديموقراطية والتنمية.
على رغم كلّ الكتابات والأبحاث التي تناولت القضية الفلسطينية، ما زلنا نحتاج إلى قراءة متأنية وعلمية لها بعيداً عن التشنج الفكري والعاطفي، من زواية التوثيق لها والتعامل مع تفاعلاتها المتواصلة في المجتمعات العربيّة.
وضمن هذا الإطار، يندرج كتاب المؤرخ عبد اللطيف الحناشي. إذ يعيدنا إلى تاريخ هذه القضية ليوثّق ويحلّل ما سمّاه في كتابه «تطور الخطاب السياسي في تونس إزاء القضية الفلسطينية 1920ــــ 1955» (المطبعة الرسمية ــــ تونس). وإن كانت تونس من البلاد العربية «البعيدة» نسبياً عن خطّ المواجهة المباشر مع إسرائيل، إلا أنّها كانت وما زالت تحمل القضية الفلسطينيّة في القلب. وقد تعاطت معها سياسياً، وتفاعلت معها مجتمعياً، ونالت نصيبها من شظاياها العدوانية الفعلية، وتحركت مراراً لنصرة الفلسطينيين وكفاحهم من أجل استعادة الحقوق المسلوبة.
المقاربة البحثية في كتاب الحناشي، تقوم على أسس علمية أساساً. والباحث الذي يعي أهمية التوثيق والقياس العلمي، كرّس مقدّمته لشرح منهجه، وعرض شكل مقاربته التي حدّد مجالها ضمن استقراء الخطاب السياسي. هذا المجال الذي ما زال قلة من الباحثين يتنبهون إلى أهميته ودلالاته المجتمعية.
وزّع الحناشي محاور الكتاب على بابين، حاصراً كلّاً منهما بمرحلة تاريخية محدّدة. هكذا، حمل الباب الأول عنوان «تطور الخطاب السياسي في تونس إزاء القضية الفلسطينية (1920ــــ 1939)»، والثاني «تطور الخطاب السياسي في تونس إزاء القضية الفلسطينية والقضايا المرتبطة بها (1939ــــ 1955)».
في الباب الأول، يستعيد الحناشي بدايات الوعي في تونس، منذ مرحلة التخطيط لإنشاء الكيان الصهيوني. هكذا، يمرّ على المبشّرين به من وعد بلفور إلى دور دول الوصاية (الإنكليز والفرنسيين)، مروراً بالمواقف والمحطات التاريخية المفصلية والكبرى: أحداث البراق، النضال الفلسطيني.... ولا بد هنا من التوقّف عند مدى نجاح الباحث في توصيف ما أحدثته هذه القضية في تونس، والإشكاليات التي أثارتها في مسائل الارتباط بالمواطنة، بالأمة، بالدين، وبالبعد المجالي التاريخي المشترك... ناهيك بالإشكاليات بين الهوية التونسية العربية، وموقع يهود تونس من المشروع الصهيوني.
ولا ننسَ هنا أنّ مرحلة التاريخ المدروسة هي مرحلة خلط هذه الانتماءات جميعها، وتصارعها وحتى وزنها محلياً وعالمياً بمكاييل مختلفة. فبناء الدول العربية الفتية، الخاضعة للوصاية الغربية، جاء بعد تقسيمها وتوزيعها ليتناقض مع بناء الكيان الصهيوني (الديني)، المدعوم أيضاً من أكبر دول الوصاية في منطقتنا: إنكلترا.
أما الجزء الثاني من الكتاب، فيغطّي مرحلة الحرب العالمية الثانية وما بعدها، ويتوقّف عند واقع الأقليات اليهودية في تونس. وقد ترافقت هذه الفترة مع نضالات البلاد العربية للحصول على استقلالها. وكانت ــــ حسب توصيف الحناشي ــــ «حبلى بالمتغيرات». إذ استطاعت الحركة الصهيونية أن تستغل النظام العالمي الجديد لمصلحتها. هكذا، تقرّر تقسيم سوريا الطبيعية، وانتهى الانتداب البريطاني، وأعلنت دولة إسرائيل، وخسر العرب الحرب، فيما سلطات الانتداب الفرنسية في تونس تتابع دعمها لهجرة اليهود.
كان الالتباس طاغياً إذاً على الخطاب السياسي في تونس، إذ تأرجح بين الانتماءات ــــ المتعددة ظاهراً ـــــ في المرحلة التاريخية المواكبة لفترة تأسيس الكيان الصهيوني في فلسطين. ثم تابع الخطاب الوطني تأرجحه العاطفي، داعماً للمواقف السياسية العربية الداعية إلى المواجهة العربية. وهنا يندرج الصراع مع الأقلية اليهودية التي حوكمت على أساس «ارتباطاتها الخارجية» والتباس الهوية الوطنية عندها. وقد ركّز الحناشي على تباين الخطاب بين القادة الحزبيين في تونس (خصوصاً بورقيبة)، والتعاطي الميداني مع الأقلية اليهودية ومع الحركة الصهيونية. ولا بدّ هنا من التذكير بخطاب شهير للرئيس بورقيبة في مخيمات اللاجئين في أريحا (3/3/ 1965)، استشرف فيه ضرورة التفاوض مع إسرائيل قبل ٤٢ عاماً.
ولعلّ المؤرخ نجح، إلى حدّ مقبول، في توصيف انعكاسات إقامة الكيان الصهيوني على بنية المجتمع التونسي، وتحليل انتماء اليهود التونسيين وعلاقتهم مع المسلمين من أبناء وطنهم. كما يلفت النظر في تفسيره تأرجح الخطاب الرسمي، ومحاولاته استغلال القضية إلى مكاسب توظف لمصلحة القضية التونسية في نضالها لتحقيق تحررها.
ولعلّ الإضافة التي يقدّمها كتاب الحناشي، هي شغله على تفكيك بنية الخطاب السياسي، ليرينا كيف يمكن قراءة التاريخ وفهمه حتى من زاوية قراءة «صغيرة». فالخطاب، بدلالات مضمونه، هو مجال غني لفهم واقعنا ورصد تحولاته والتوثيق لتاريخه. كما بيّن مدى التباس مسألة الهوية في مناطقنا العربية التي ما زالت تتعرض لمشاريع التفتيت وإعادة التركيب. وهذه مسألة ما زلنا نتحسس مرارتها في مرحلة ملتبسة تخبّئ لنا، في المقلب المشرقي، مستقبلاً غير واضح المعالم.
والكتاب يحاول فهم آليات الصراع بين «الأنا» و«الآخر»، في السياسة، حتى لو كان هذا الآخر شقيقاً: صراع مصالح، صراع تكتيك سياسي... إنّما، في الوقت عينه، صراع بين خطط وتوجهات واختيارات، على رسم ملامح المستقبل