بشير صفير
•المغنّية الخمسينيّة تواصل تجاوز المحظورات وتحطيم القيود

ولدت مع الثورة الجزائرية، وعاشت متمرّدة ومشاكسة. موعدكم غداً على خشبة الـMusic Hall مع المغنية الشعبية التي يمتزج في صوتها جفاف الصحراء ورطوبة المتوسط. شاهدوها أيضاً في فيلم «Délice Paloma» ضمن برنامج «مهرجان الفيلم الأوروبي»
يشهد لبنان هذه الأيام فورة فنّية على مختلف المستويات: تظاهرات سينمائية، عروض مسرحية، معارض تشكيلية وتجهيز، إضافة إلى ازدهار النشاط الموسيقي بطريقة قلّ نظيرها منذ عدوان تموز (يوليو) 2006. هل نرى في هذا الواقع تجسيداً لـ«الفصام» اللبناني؟ من جهة أزمة كيانية مقلقة تدفع بعضهم الى إعادة النظر في خصوصيّة لبنان نفسها، وفي تلك الأثناء تتواصل الحالة الثقافيّة التي طالما صنعت خصوصيته، كأن شيئاً لم يكن! باختصار البلد يتعامل مع أزمته السياسية كأنّه زائل غداً، ويعيش حياته الثقافية كأنه باق إلى الأبد...
وسط زحمة التظاهرات هذه، يطلّ حدث استثنائي سينتشل بالتأكيد جمهور الموسيقى (أقلّه) من حيرته ويوجّهه مباشرة إلى صالة الـMusic Hall الشهيرة في بيروت. ليس على هواة الأغنية سوى أن يتبعوا بوصلة ألفتريادس و«كاباريه العالم» (المركز الثقافي الفرنسي) التي لم تعرف خللاً حتى الآن. المغنّية الجزائرية بيونة ستحلّ ضيفةً على بيروت لليلةٍ واحدة فقط... فيما ستبقى بصفتها ممثّلةً، إذ سيُعرض فيلمها Délice Paloma (للمخرج الجزائري نذير مخناش) ضمن «مهرجان السينما الأوروبية» في صالة «صوفيل».
تعود الحيوية إلى «ميوزكهول» إذاً، بعد أسابيع على استضافته المغنّية الفرنسية جان شرهال. وكما ملأت هذه الأخيرة الصالة البيروتية بالحياة والموسيقى في مناخ فريد من التفاعل مع الجمهور، كذلك ستفعل الفنّانة الجزائرية الخمسينية التي تنضح بروح الشباب. موعد جديد مع اتجاه مهم في الأغنية الجزائريّة الجديدة، ندين به لـ«المركز الثقافي الفرنسي». الأغنية الشعبية الجزائرية، أو بتحديد أدقّ مع الأغنية الشعبية العالمية التي يلتقي فيها أكثر من مرجع: من الموسيقى المغاربية إلى الغربية (الأوروبية والأميركية) مروراً بالأفريقية بالتأكيد. وإذا تأملنا ملياً بانوراما النشاطات الفنية للتعاون القائم بين المنتج الفني اللبناني ميشال ألفتريادس وCabaret du Monde، نرى أنّ برمجة «ميوزكهول»، تتفادى النخبويّة من دون أن تقع في مطبات الفن التجاري. يعرف القيمون على تلك البرمجة أنهم ـــــ بكل بساطة ـــــ يتوجّهون إلى جمهور متعطّش للفن، بعيداً من تعقيدات الحداثة وما بعدها، ومن التجارية المفرطة. واليوم تأتي بيونة لتستكمل لائحة طويلة، متميّزة ومتجانسة على رغم تنوّعها، من الفنانين الذين حملوا تجاربهم المتميّزة إلى لبنان... واللقاء مع بيونة، هو لقاء مع فنانة تلتهم الحياة ولا تصاب بالتخمة، بل تبعثها على طريقتها بلا كلل، ماضيّة في تحطيم القيود والضوابط الاجتماعية والدينية.
ولدت بيونة مع الثورة الجزائرية (1954)، وبدأت مسيرتها الفنية راقصةً ومغنيةً في كاباريهات العاصمة الجزائرية. وعندما نالت الجزائر استقلالها عام 1962، كانت بيونة فرضت حضورها واستقلاليتها الفنّية، في النص والموسيقى والتمثيل. وكلما تقدمت في العمر هذه الفنانة، تبدو أكثر راديكاليّة وتمرّداً، على مستوى الشكل والمضمون.
لم تصدر أسطوانتها الخاصة الأولى Raid Zone إلا عام 2001، بعد حضور مديد على خشبات الجزائر ومدن العالم. وهي تتمتع اليوم بشعبية استثنائية في بلدها بفضل شخصيتها المحبّبة التي تضجّ بالحياة ومسحة السخرية السوداء والفكاهة التي لا يغيب عنها الحزن والألم. أضف إلى هذا صوتها المميّز، ذلك الصوت الذي تتمتّع به معظم مغنيات المغرب العربي، أي الجهوري إجمالاً، والخشن قليلاً، المطبوع بجفاف الصحراء والمتأثر برطوبة المتوسط. إنه صوت مناخي إذا جاز التعبير، فالطبيعة والطقس يؤديان دوراً أساسياً في تكوين نبرته. تعتبر بيونة مؤدية بقدر ما هي مغنّية، وهي تتمتع بحركة مسرحية ترافق غناءها، وتسير وفقاً لتبدّلات النص الكلامي. يحضر الصراخ في أدائها عند اللزوم، والحنان في النص الغزلي، والوجع الذي يعكس المعاناة، والتهكّم المفرط الذي ينضح عبثاً وجودياً.
تجمع بيونة في أغنيتها الشعبية البسيطة أكثر من نمط. إنها بنصها العربي الجزائري، أو الفرنسي، نقطة تتقاطع عندها موسيقى الراي، و«الشعبي» الجزائري، والبلوز، والإيقاعات الأفريقية، والريغي والسوينغ والبوب الأوروبية (الفرنسية إجمالاً). في هذه المحطة أو تلك، نلاحظ طغيان لون معيّن على الألوان الأخرى. هذا العام، أصدرت بيونة أسطوانتها الثانية Blonde Dans La Casbah (شقراء في القصبة)، وبدأت مطلع هذه السنة جولةً عالميةً لتقديم عملها الجديد. وما لقاء الغد سوى محطة من هذه الجولة التي ستتواصل خلال العام المقبل.
حوت أسطوانة بيونة الأخيرة مجموعةً من الأغنيات الخاصة التي تتميّز بأسلوب سهل ممتنع، يأخذ شكل القصة بعناصرها الوصفية وسياقها. وتحمل الأسطوانة عنوان أغنية مهداة إلى والدة بيونة التي توفيت عن 84 عاماً، وفيها قصة امرأة تتنكر بشخصية مارلين مونرو في حفلة في «القصبة» (قلب المدينة القديمة)، وترقص على طريقتها... صحيح أن شعرها أشقر مصطنع، لكن قلبها ذهبي حقاً. ويتغير جو الأغنيات مع تغيّر الموضوع، وتتغير معه تركيبة الفرقة الموسيقة المرافقة التي تضم 30 آلة (شرقية، غربية، لاتينية، أفريقية، تراثية وحديثة)، يتولى عزفها 19 مؤدياً... والثابت وسط كل هذا، هو صوت بيونة بحضوره القويّ. أما أغنيات الألبوم، فتدور حول العلاقات الإنسانيّة والحب والموت والألم والوحدة... من دون أن ننسى الصلاة التهكّمية، التي تشكر فيها المولى عزّ وجلّ على كل أمراض العالم وكل الأشياء الجميلة التي لا نملكها أصلاً. وتقتصر الفرقة على 5 موسيقيين، هم دوريو إيفكوفيتش (أكورديون)، وسامي شيبوب (درامز)، وكزافييه لوغيه (باص)، ويسري غياط (إيقاعات)، ومصطفى مطاوي (بيانو وقيادة فرقة)، أي أن آلات النفخ النحاسية والخشبية، والآلات التراثية، هي الغائب الأكبر عن حفلة الغد في بيروت، لكن الفرقة المعتمدة هي توليفة ناجحة للمادة الموسيقية الواردة في الألبوم، وتفي بالغرض بلا شك.

غداً الأحد ، التاسعة مساء ـــــ ميوزكهول، بيروت ـــــ 361236/01