باريس ـــ بيار أبي صعب
  • رعد، مروّة، صانع، جريج، حاجي ــ توما في «مهرجان الخريف»

  • يُعَدُّ «مهرجان الخريف» في باريس من أعرق المهرجانات المسرحيّة والفنيّة في أوروبا. وهو يفتح أبوابه للمرّة الأولى منذ تأسيسه قبل ٣٦ عاماً، لأعمال مشهديّة وبصريّة معاصرة، من مصر وسورية ولبنان. عودة إلى خلفيات هذا الحدث الذي يندرج ضمن مجموعة تظاهرات جعلت من الثقافة اللبنانيّة «نجمة الموسم» هذا العام في فرنسا

    استقبلنا غرايم في المطعم الباريسي بحفاوته المعتادة. ومن دون مقدّمات شرع يتحدّث، بلكنته الأميركيّة المحببة، عن «الفيلم اللبناني» الذي أعجبه كثيراً: «الآن فهمتكم أكثر... شعرت بأنني قريب من لبنان». كان الصديق النيويوركي الباريسي يتحدّث عن فيلم نادين لبكي «سكّر بنات» طبعاً. لكثرة التعليقات التي تصلك عن الفيلم، يخيّل إليك أن كل أهل باريس، وكل الفرنسيين شاهدوه وأحبّوه...
    على كلّ حال لبنان الثقافي هو نجم الموسم في فرنسا على أكثر من صعيد، ولا يعرف المرء إذا كان عليه أن يفرح بهذه الظاهرة، أم يتعامل معها بشيء من الريبة والحذر. أي سرّ يجعل الإبداع اللبناني يبرز أكثر من طاقته في أوروبا، فيما الساحة المحليّة شبه قاحلة، إنتاجاً وتوزيعاً وانتشاراً ونضجاً وحريّة وجمهوراً!... مهرجانان للسينما اللبنانيّة هذا الصيف، واحد في العاصمة وآخر في مدينة ليل الشماليّة. فيلمان على الشاشات الفرنسيّة منذ أسابيع، أثارا كثيراً من النقاش وردود الفعل: «كاراميل» لبكي طبعاً... لكن أيضاً «رجل ضائع»، فيلم دانيال عربيد الذي يفوقه فضائحيّة و«جرأة»، الأمر الذي يثير اهتمام جزء من النقد والإعلام المنشغل بهذا النوع من التناقضات (عرب ونساء وسكس وحريّة، إلخ).
    أما تظاهرة «الآداب الأجنبيّة» Les belles Étrangères التي تحتفي سنوياً بلغة أو دولة أو مجموعة جغرافيّة، فتستضيف هذا العام (١٣ ــــ ٢٤ ت٢/ نوفمبر) 12 كاتباً وكاتبة من لبنان، من إلياس خوري ومحمد أبي سمرا وعباس بيضون إلى جمانة حدّاد وياسمينة طرابلسي...
    وأخيراً يأتي «مهرجان الخريف» في دورته السادسة والثلاثين، ليشرّع أبواب باريس للمسرح اللبناني، ضمن تظاهرة خاصة بـ«الشرق الأوسط» افتتحت بأمسيتي محمود درويش (راجع الكادر أدناه)، وتستضيف أيضاً عمر أميرالاي وحسن خان... نقول المسرح تجاوزاً، لكون الأعمال المقدّمة هي على حدود المسرح، أقرب إلى دائرة الفنّ المعاصر... علماً بأن المهرجان الذي أسّسه ميشال غي في عهد الرئيس جورج بومبيدو (١٩٧٢)، وقدّم طوال هذه السنوات بعض أهم التجارب المشهديّة في العالم، هو مسرحي وراقص أوّلاً، موسيقي بعد ذلك، لكنّه يفرد حيّزاً كبيراً للفنّ المعاصر والسينما، مع انفتاح راسخ على الفنون المشهديّة والبصريّة الأخرى.
    الجمهور على موعد مع بعض أبرز التجارب الفنيّة الطليعيّة في لبنان: وليد رعد، ربيع مروّة ولينا صانع، خليل جريج وجوانا حاجي ــــ توما (تجهيز «أين نحن؟»، ١٠/١١ ـــ ٩/١٢)... فنانون من الجيل الجديد في لبنان، نجحوا أخيراً حيث فشل أسلافهم، واقتحموا باريس المعروفة بكونها قلعة محصّنة، تضيق بتجارب الأطراف في مجال المسرح تحديداً... إلا ما حمل منها الشحنة الإيكزوتيكيّة الكافية. قبلهم كانت عروض روجيه عسّاف والطيب الصديقي وريمون جبارة وجواد الأسدي تحصر في دائرة «ثقافات العالم»، وأعمال الفاضل الجعايبي تنفى إلى الضواحي البعيدة.
    ما زلنا نذكر جواب الراحل ميشيل غي أواسط الثمانينيات، حين سألنا مؤسس «مهرجان الخريف» ومديره آنذاك، خلال مؤتمر صحافي، لماذا لا تقدّم تلك التظاهرة العريقة أعمالاً عربيّة، في غمرة ما تستقدمه كل خريف، من الشرق والغرب؟ كان الجواب مختصراً وبسيطاً: «نحن لا يهمّنا سوى النوعيّة. هناك مستوى معيّن من النضج الفنّي والتقني في الأعمال التي نبرمجها». هل تحمل التجارب الجديدة، مواصفات لم تكن متوافرة في ما سبقها؟ أم أنّ اللحظة الثقافيّة والسياسيّة تغيّرت، وغيّرت معها النظرة الفرنسيّة إلى ثقافة الأطراف؟
    في كلّ الأحوال، كان على المسرح اللبناني أن يتمرّد على نفسه، أن يتعرّى من أشكاله القديمة، كي تفتح له أبواب القلعة. الفنانون المشاركون في «مهرجان الخريف» ينتمون إلى جيل ما بعد الحرب الذي أخذ يبحث بين الركام عن وطنه، وعن ذاته. إنّهم أبناء جيل القطيعة، لجأوا إلى أدوات ووسائل تعبير جديدة. وانخرطوا في مشروع مركّب يمكن أن نسميه «أركيولوجيا الحرب اللبنانيّة». هذا المشروع هو المحور الأساسي في أعمال ربيع مروّة الأساسية خلال العقد الأخير منذ «اُدخلْ يا سيدي، إنَّنا ننتظرك في الخارج» (١٩٩٨) إلى آخر عروضه «نانسي ــــ كذبة نيسان» الذي أعدنا مشاهدته أمس على مسرح «المدينة الجامعيّة».
    أعاد هؤلاء الشباب اكتشاف أشكال قديمة تعود إلى عشرينيات القرن الماضي، وطُوِّعَت لتناسب خطابهم الجديد، وهويّتهم الجديدة. «البرفورمانس» صارت كلمة السرّ الرائجة التي اجتمع حولها عدد مهمّ من التجارب، والفيديو أفرز لغته الخاصة، والتجهيز الإنشائي بدا الإطار الأنسب لعلاقة الفنان بالفضاء وتقنيات السرد. وسائل التواصل المتعددة الوسائط صارت هي المنهل التي تنحدر منه أبجديات من نوع ثالث. وكل ذلك من تجليات قتل الأب الذي صنع نهضة السبعينيات، وشاخ وحيداً ومعزولاً ومهزوماً، أو بقي أسير إنجازاته التي تحوّلت إلى دوغما.
    البرفورمانس أداة تبناها ربيع مروّة الذي اختار أن «يخرج من المسرح ليتفرّج عليه». وقد قدّم في باريس مع لينا صانع عملهما السابق «من يخاف الممثّل؟» الذي يجمع بين «العرض الفنّي» كـ«حدث» مسرحي، وإحالات سياسية إلى الواقع السياسي اللبناني من خلال عمل توثيقي تبدو الحدود واهية عنده بين الواقعي والمتخيّل، بين التسجيلي والروائي. وهذه العلاقة بالأرشيف، كمادة فنية، تناولها مروّة في عرض آخر أعاد تقديمه في باريس هو «كيف بدّي وقف تدخين».
    كما تقدّم لينا صانع في «مهرجان الخريف» عملها الأخير «الزايدة» (٢٢ ــــ ٢٨/١٠) الذي يمكن اعتباره امتداداً للهاجس نفسه، هاجس القطيعة مع الفضاء والزمن السائدين، لإنتاج عرض أقرب من «الفعل المسرحي». تبحث لينا عن مصادر وحيها عند فناني مدرسة فيينا التي أطلقها في ستينيات القرن الماضي، فنانون محبطون في مجتمع مريض، مثقل بأعباء الحرب العالميّة وعواقبها. راهن هؤلاء، من أمثال أوتو موهل ورفاقه في جماعة «الفعل المسرحي» على البعد الملموس للفنّ. وأدخلوا جسد الفنّان، وذاته، وحياته، في صلب الاحتفال المشهدي.
    ولعلّ الحدث الأبرز للموسم، هو مسرحيّة مروّة التي انطلقت مساء أمس (لغاية ١٤/١٠)، «كم تمنّت نانسي لو أن كلّ ما حدث ليس سوى كذبة نيسان» (مع لينا صانع، وحاتم إمام وزياد عنتر ــــ كتب النص مع فادي توفيق)، الذي يغور في جراح الحرب الأهليّة عبر تجهيز مسرحي قائم على السرد التوثيقي والتداعي المفبرك، استناداً إلى الجانب البصري الذي يلعب على فكرة ملصقات صور الشهداء كذاكرة جماعيّة يعاد تشكيلها وتحريفها المتعمّد على شاشات الفيديو.
    ولا بد من التوقّف عند عرض وليد رعد الذي يعيد في باريس تقديم عرضه «أشعر بحاجة ماسّة للقاء الجموع مرة أخرى» (١٢ و١٣/١٠). ويمكن اعتبار رعد أوّل من أدخل شكل «المحاضرة ـــــ البرفورمانس» إلى لبنان بعد الحرب، لاعباً على الحدود الواهية بين المادة الواقعيّة والسرد المختلق... يشتغل مؤسس جماعة «أطلس» على الصورة بمختلف احتمالاتها واستعمالاتها، كمادة أرشيفيّة لا تكتمل إلا بتأويلها وإعادة التأريخ لها. وقد اختار «المحاضرة» قالباً للعرض ووسيلة للتواصل، وفضاء يساعد على تماهي الخرافة والحقيقة التي باتت غير مجدية ومستعصية على الفهم.
    وقدّم «مهرجان الخريف» أيضاً تجهيز فيديو للسينمائي الإيراني عباس كياروستامي (عن طقوس «التعزية» الشيعيّة في إيران). كما يستضيف قريباً السينمائي السوري عمر أميرالاي (عرض استعادي لأفلامه وأفلام من اختياره، ١٦/١٠ ــــ ١٨/١١)، والفنان المصري حسن خان («كومبريسور» ــــ تجهيز، ١٩/١٠ ــــ ١٨/١١)، والمسرحي الإيراني أمير رضا كوهستاني («تجارب حديثة»، ٨ ــــ ١٨/١١) .