بيار أبي صعب
للوهلة الأولى يصعب على قارئ عباس بيضون أن يتقبّل الفكرة: مجلّدان سميكان على الطاولة دفعة واحدة؟ شعره يأتينا عادةً بكميات محدودة، للاستهلاك الشخصي. ننتظره من جهة الحياة وعلى صفحات المطبوعات الزائلة. نسترق قراءته في كتب مبعثرة، موزّعة على سنوات الشتات والضياع والنسيان... أوّلها وأشهاها «الوقت بجرعات كبيرة»، ليس بسبب«الانتحار» و«جناز لصافي شعيتاني»، بل من أجل حجمه الصغير.
اليوم يعود إلينا ذلك الشعر في «ديوان»، كما تُجمع نصوص الكتّاب الكبار الداخلين إلى بانتيون الأدب، في «أعمال كاملة». أعمال عبّاس بيضون ناقصة تحديداً، كما عوالمه وحيواته، يفلت بعضها منا كلما أردنا أن نحتويها. ونستغرب ألا تضيع أوراق مخطوطاته كلّها، بين أكداس ذكريات وأجساد مهجورة. أن تكون قد وصلت إلينا قبل أن يبعثرها في أزقة غامضة، وحكايات لم يقرأها تماماً، وغرف واسطبلات وشرفات بلا نهاية، ومقاه أغلقت من سنوات، ومدن يخيّل إليه أنه زارها، ومغامرات ميتافيزيقيّة يظنّها، ونظنّها، سيرته.
القصائد نفسها، تأتينا مجدداً مثل تكريس متأخر لم نكن نتوقّعه. لأن صاحبها على هامش حياته، لا يقبضها على محمل الجد، يعيشها من خارجها، أو لا يعيشها. «الحياة ـــ أننا ندعها لخدمنا/ يعيشونها عنّا». تلك الحياة التي «لم يعشها» هي جوهر الشعـــــــر، حسب الناقدة خالدة سعيد في تقديمها للمجلّدين. ولعلّ نص خالدة سعيد وحده، كان ليشكّل سبباً كافياً لإعادة نشر المجموعات الثلاث عشرة في ديوان واحد. «ليس الحضور إلا فاصلة بين غابين...» تكتب. نتخيّل عباس بيضون، تيميّ الغياب (fétichiste de l’absence)، منسلاً من الكتاب الضخم، ليستأنف حياته في قصيدة أخرى.