بشير صفير
مثّلت مع عبد الوهاب وفريد الأطرش وأثارت غيرة أم كلثوم

يوم استعمل إيليا سليمان أغنيتها «تانغو الأمل» في فيلمه «يد إلهيّة»، أعاد الجمهور اكتشاف الفنانة التي لم يمضِ عقد على رحيلها. إنها ألكسندرا بدران التي اختطفها يوسف بك وهبي في الأربعينيات من حلب، لتلفظها القاهرة بعد عقد كامل، منكسرة ومخذولة ووحيدة. كتاب الباحث أسعد مخّول يعيدنا إلى تلك المسيرة الاستثنائيّة

«الفنان ليس علبة كبريت نحصل عليها ساعة نشاء» هكذا ردّت نور الهدى (1924-1998) على فخامة الرئيس! يومها، أرسل مسؤولون في القصر الجمهوري دعوةً إلى المطربة الراحلة لإحياء حفلة تكريمية للرئيس بشارة الخوري في القصر الرئاسي. إلا أنّ مطربتنا اعتذرت عن عدم الحضور بسبب تلقّي الدعوة قبل يوم واحد فقط من موعد الحفلة! هذه الحادثة يذكرها الباحث والكاتب اللبناني أسعد مخول في كتابه التكريمي عن المطربة الراحلة بعنوان «من الأرز إلى الهرم: المطربة نور الهدى» الذي صدر عام 1996 وأعادت جمعية «عِرَب» طباعته أخيراً بعد تنقيحات وإضافات أجراها الكاتب.
يعيد الكتاب الاعتبار إلى فنّانة من العصر الذهبي الذي شهد بروز أسماء صنعت مجد الطرب الأصيل، من صباح إلى نجاح سلام، مروراً بفايزة أحمد... أيّام كانت مصر محجّة المطربات العرب، والمدخل الذي لا بد منه على طريق الشهرة والنجاح.
قبل أن تصبح نور الهدى، كانت ألكسندرا بدران التي ولدت في تركيا عام 1924 حيث كان يعمل والدها الذي سكنته لوثة التأليف، وخصوصاً المواويل والموشحات، ما جعل ألكسندرا الصغيرة تتأثّر بوالدها. وعادت إلى بيروت صغيرة لتعيش في حي المزرعة. وهنا أدّى زوج عمّتها، والد الممثلة الراحلة فريال كريم، دوراً أساسياً في اكتشاف موهبتها في الغناء، وساعدها ضدّ رغبة والدها الذي كان يرفض رفضاً قاطعاً ميولها الفنية.
وكانت حلب هي مفترق الطرق... هنا استمعت إليها الفنانة فتحية أحمد ذات يوم من عام 1942، فأعجبت بها. وكانت بداية طريق النجومية، عندما قدمتها للفنان الكبير يوسف وهبي الذي كان يقوم بجولة في سوريا بحثاً عن وجوه جديدة، فأعجب بصوتها ثم بقوة شخصيتها. وعلى الفور طلب منها الحضور إلى مصر، لتمثل معه في فيلمه «جوهرة».
هكذا رحلت بعيداً من بطش الوالد الذي سجن ذات مرة ابنته الصبيّة سنةً كاملة، قصاصاً على إحيائها حفلة في سينما «كريستال» في بيروت خلال بداياتها الفنية. إلا أنّه سرعان ما سيستسلم للأمر الواقع تحت ضغط الأقرباء مشترطاً على ألكسندرا مرافقتها في جولاتها وحفلاتها كافةً، إلى حدّ أنّ الصحف المصرية ستطلق على الثنائي لاحقاً اسم «نور الهدى وخيالها»!
في القاهرة، حيث كان الغناء شرطاً لا بدّ منه للتمثيل في «السيما»، وقّع الممثل الأسطوري عقداً مع الفنانة الصاعدة لمدة خمس سنوات. فيلمهما المشترك الأول «الجوهرة» (1943) حقّق نجاحاً كبيراً. وكانت الولادة الجديدة لألكسندرا بدران، إذ اختار لها يوسف بك وهبي اسم نور الهدى لكونه اسماً عربياً أكثر تناسباً مع إطلالتها على الجمهور... وبعدها قامت ببطولة فيلم «برلنتي» الذي غنّت فيه من ألحان رياض السنباطي والقصبجي. ثم اختارها الموسيقار محمد عبد الوهاب لتشاركه بطولة آخر أفلامه «لست ملاكاً». وشكلت مع فريد الأطرش ثنائياً لافتاً على الشاشة، ومثّلت معه في أفلام عدة أبرزها: «ما تقولش لحد» و«عايزة أتجوز»...
أمضت نور الهدى عشر سنوات من العمل في السينما المصرية، وغنّت ألحاناً لكبار الموسيقى العربية: رياض السنباطي («يا أوتوموبيل»)، محمد عبد الوهاب («ما تقوللي مالك محتار»)، محمد القصبجي (رائعته لنور الهدى «يا اللي تحب الفلّ»)، فريد الأطرش («يا ساعة بالوقت إجري»)، فريد غصن («يا نا يا وعدي»)، وتوفيق الباشا («حديث قبلة»). ومثّلت أمام نجوم الشاشة الكبيرة يومها: يوسف وهبي، محمود ذو الفقار، بشارة واكيم، محسن سرحان، محمود المليجي، سامية جمال، عبد السلام النابلسي، أنور وجدي، محمود عبد العزيز... وعملت مع فنانين ومطربين بارزين، أمثال محمد فوزي وعبد العزيز محمود. وقد فتحت الباب واسعاً أمام صباح، ووديع الصافي ونجاح سلام وسعاد محمد لدخول عاصمة الفن العربي.
لكنّ حياة نور الهدى لم تكن بهذه السهولة. هي التي عانت بدايات صعبة، لم تكن القاهرة جنّتها الموعودة. فقد واجهت هناك العديد من العقبات التي عزاها كثيرون إلى غيرة بعض الفنانات المصريات، من هذه المرأة الآتية من بيروت لتسرق منهنّ بريق الشهرة!
كثرت الشكاوى ضد نور الهدى... بين غريماتها ليلى مراد ورجاء عبده التي تحركت ضدّها بإيعاز من أم كلثوم (حسب مقابلة مع نور الهدى عام 1991). وإذا بـ«إدارة الشؤون العامة» في مصر تماطل في تجديد إقامة المطربة، ثم تجبرها على أن تتعهد لها خطياً بعدم إقامة أي حفلة في مصر، وعدم المشاركة إلا في فيلمين في السنة حداً أقصى، إذا أرادت أن تبقى في أرض الكنانة. وما زالت الرسالة المفتوحة التي وجّهتها نور الهدى عام 1956 الى الرئيس المصري جمال عبد الناصر عبر مجلة «الشبكة» خير مثال على الحروب القطرية المفتوحة التي كانت مندلعة يومها بين أهل الفن.
كتبت نور الهدى: «الإجراءات التي فرضتها قوانين الرقابة المصرية الصارمة علينا، نحن أهل الفن في لبنان وسوريا، باتت تتنافى وروح الثورة التي من أسسها تقوية العلاقات الأخوية الطبيعية بين مصر وكل قطر عربي. لماذا يا سيدي الرئيس يفرض عليّ أن أتوجه بكتاب إلى وزارة الداخلية في القاهرة لتوافق على منحي سمة الدخول إلى مصر، ولا يفرض لبنان بالمقابل سوى طلب بسيط تتقدم به الفنانة المصرية إلى سفارتها في القاهرة لا لوزارة داخلية لبنان؟».
بعد سنوات النجاح القاهريّة، غناءً وتمثيلاً، وقفت نور الهدى في لبنان عام 1953 متأرجحة بين خيارين: العودة إلى مصر أو اعتزال الفن. في لبنان، اقتصر نشاطها على إحياء الحفلات، وتسجيل الأغاني في الإذاعة اللبنانية. وهنا أيضاً، واجهت الكثير من الصعوبات: عندما قصدت حليم الرومي ومعها قصيدة صالح جودت ليلحّنها لها، إذا به على فراش المرض. وعندما تمنّت أن يلحن لها الأخوان الرحباني أو تشترك في مهرجانات بعلبك، لم يطرق بابها أحد.
وقد غلّف السؤال مسيرة هذه الفنانة الاستثنائيّة التي عبرت كالشهب في سماء الطرب: ما هي أسباب عدم استمرار نور الهدى في العمل الفني؟ يقول أسعد مخول في كتابه إنّ أحد أهم أسباب اعتزالها العمل الفني مبكراً هو طغيان الموجة الجديدة على الموسيقى والغناء منذ السبعينيات، إضافة إلى حالات مرضية عانتها لفترة طويلة.
أما حياتها العاطفية، فظلّ يكتنفها الغموض، حتى ظنّ الناس أنّ هذه المطربة العملاقة هي إنسان بلا قلب. لكنّ نور الهدى أعربت مراراً عن ندمها على عدم الزواج والإنجاب طوال حياتها.
وعلى موقع «النيل والفرات»، نقرأ هذا التقديم لإحدى أسطواناتها الصادرة عن «شركة صوت الشرق»: «مشوار طويل في خطى قليلة، تلك هي تجربة نور الهدى. عانت الظروف الفنية والعوائق القانونية، الأوضاع العائلية والعادات الاجتماعية... لكن معاناتها الكبرى كانت التعتيم على أغنياتها التي لم تصل كما ينبغي إلى آذان الجمهور...».