نجوان درويش
«يُظهر ملاك إذا تبعته خسرتَ كل شيء، إلا إذا تبعته حتى النهاية» (س.ب)
تجد في بريدك الإلكتروني جملةً واحدةً بالإنكليزيّة: «سركون بولص مات اليوم». الخبر لم يستدع توضيحاً من المرسِل كأنّه يعرف أن بقيته عندك بالضرورة. تفتح الباب وتخرج بملابس النوم إلى شارع خال: شمس خريفية تبدو مقتصدة في مشاعرها تقلّب المشهد في ظهيرة يوم أحد عادي. («كأن الحياة يوم أحد».. تفشل في تذكّر الشاعر الذي كتبها) تستند إلى طرف المدخل الحجري فتجده دافئاً. تقترب أكثر من الحجر وتفكّر في أنك تحتضنه وأن لا ضير في ذلك.
وقتها تفهم أنّ جملة Sarkoun boulos died today قد أشعرتك بالبرد.
سركون شاعر مغامرة مفرد تتضاعف أهميته في الثقافة العربية حيث مغامرات الشعراء تكون غالباً على الورق. كأن الكتابة شيء والحياة شيء آخر. لقد كانت أمثولته الكبيرة والبسيطة أنّ الكتابة والحياة شيء واحد وأنّ المغامرة الفنية تتسع باتساع مغامرة العيش. انظروا إلى الشعراء «المستقرين» الذين تزوجوا وأنجبوا وصار لهم أحفاد، «عمّروا» بيوتاً، واستثمروا و«صعدوا» مراتب النجاح. انظروا إلى الذين دبكوا في أعراس أولادهم وبناتهم. إلى الشعراء الذين يأكلون البطيخ الذي تشقّحه زوجاتهم في الصيف، و«القطائف» وسط العائلة وهم يشاهدون «باب الحارة» في شهر رمضان. إلى آكلي المكسّرات أمام قنوات فضائية تبث من خيام مكيفة تنطح سماء الخليج.
«سركون بولص مات... اليوم» هو أحد الأيام النادرة التي استيقظتَ فيها مبكراً. إذ قلّما صرتَ ترى الشمس، فأنتَ منذ سنوات تنام في النهار وتستيقظ في الليل. منذ سنوات تتنازل عن كل ما هو نهاري بتسليم قدري وتكسب كل ما هو ليلي بغير اكتراث. مكتسبات الليل لم تعد أكثر من مساحة محيّرة بين الميلانكوليا وشحنات من الغضب السياسي كدستَها مؤخراً تكفي لتفجير ثلاث دول ـــــ من تلك «الدول» التي تبدو «فكرة الهرب» أعلى فكرة تداعب خيال مواطنيها. غضب مدروس ومدوزن توجهه نحو زمن نشاز هو زمن الاحتلال للبلد الذي بت تشعر بأنّك لا تستطيع أن تتركه؛ لأنّ تركه يشبه الهرب من ساحة معركة. (أي معركة يا دونكي ــــ شوت؟).. الهرب قد يكون فعل الحرية الوحيد الممكن وقد يكون مجرد تخاذل؟ لا تملك إجابة.
تغضب لأنّ تحذير سركون وصلك في إحدى قصائده لكنك أهملت تلك «الوصية» التي قرأتها قبل خمس سنوات عند مفترق طرق وجودي: «قال لي: أنصحك أن لا تؤخر الأمر. لا تلتفت إلى الوراء. غادر./ هذه النقطة في الزمن، هذه البقعة في الأرض، هذا الحاضر الذي تستيقظ فيه: غادر./أنصحك أن تترك هذه الجثة وشأنها لأنها ماتت بل بدأت تتعفّنُ منذ مدة/ ولن يفيدها الآن لا شانيل رقم 5 ولا باكورابان..»
ولكنك بقيت تدور حولها كالجرو رافضاً أن تصدق. تتبين في داخلك غضباً ذاتياً خاصاً على الاحتلال هذه المرة. تفكّر في أن المذكور قد منعك من الذهاب في المغامرة إلى أقصاها كما حسبت دائماً أن شاعراً مثل سركون قد فعل. مغامرة «أن لا يكون لنا أهل أن لا يتعرف علينا أحد» كما يصفها مغامر آخر هو نوري الجراح. مغامرة أن يموت الشاعر بلا ورثة.
تفكّر في أنّ هذا كان خيارهم منذ البداية... فلماذا نستوقفهم ونتعرف عليهم وندلي بشهادات؟ الأحرى أن نسهر عند أكلة البطيخ والقطائف الذين «ثمّروا» و«عمّروا»! الذين سيتحدثون الليلة بإعجاب ــــ أمام أصهارهم ــــ عن موت شاعر يدعى سركون بولص!