باريس ـــ عبد الإله الصالحي
الرئيـــــس ساركـــــوزي بطـــــل الموســـــم (الأدبـــــي) في باريـــــس

انطلق الموسم الأدبي في باريس، وبدأت المراهنات على الجوائز المختلفة. وعاد النقاش الأبدي حول السرقات الأدبيّة. هذا العام تعاني سوق الرواية تخمة في الإصدارات، وقد تراجع الأدب النرجسي لمصلحة اتجاهات تجاور الواقعيّة

كما هي العادة عند بداية كل موسم أدبي فرنسي، عمّت الصحافة الثقافية موجة من التذمر والشكوى لكثرة الإصدارات التي بلغ عددها هذا العام 727 رواية، بما فيها تلك المترجمة عن اللغات الأجنبية (مقابل 683 الموسم الماضي). والملاحظ هذه السنة أنّ دور النشر الكبيرة مثل «غاليمار» و«فلاماريون» و«غراسيه» قلّصت عدد إصداراتها، لكنّ دور النشر الصغيرة عدّلت الكفّة وضاعفت من منشوراتها. هكذا حافظت دور النشر الفرنسية على شغفها بالأعمال الروائية الأولى التي بلغ عددها هذا العام 102، ستعود غالبيتها إلى المطابع على شكل مرتجعات، إذ إنّ السوق لا ترحم والمكتبات تسحب الجديد من رفوفها بعد ثلاثة أشهر من عرضها في أحسن الأحوال. ويشكّل الموسم، من جهة أخرى، نقطة انطلاق السباق نحو الجوائز الأدبية التي تبقى الهدف الرئيس لدور النشر، ولحفنة من الكُتّاب ستختارهم بعد شهرين لجان القراءة والتحكيم.
انسجاماً مع توجه عام ظهرت إرهاصاته في الثلاث السنوات الأخيرة، هناك عودة قوية إلى المواضيع الواقعية والاجتماعية، أو تلك المستوحاة من الأحداث الوطنية والعالمية مقابل انحسار متزايد للأدب النرجسي أو ما يُطلق عليه هنا اسم أدب «السُرَّة» Littérature nombriliste، الشغوف بالذات وهواجسها بمعزل عن قضايا المجتمع. ولعل النموذج الأكثر احتفاء بالواقعي، من دون الغرق في براثن الواقعية، هو رواية «ليس في مأمن من أي شيء» (دار «لوليفييه») ويحمل توقيع أوليفييه آدم. زرع هذا الكاتب الأربعيني المتميز بطلته التي تسرد القصّة، في قلب مخيم للّاجئين والمهاجرين السريين في سونغات في الشمال الفرنسي، حيث يتقاطع الشقاء الفردي مع الضياع الجماعي.
هناك أيضاً رواية ليدي سالفير «صورة الكاتب كحيوان داجن» (دار «لو سوي») التي تُشرِّح آليات النزعة الاستهلاكية في المجتمع الليبرالي بطريقة هجائية ساخرة. ولعل المثال الذي يعكس بجلاء الزواج الناجح بين المتخيل والواقع هو رواية «قبر الدمى» للكاتبة مَزارين بانجو، ابنة الرئيس الراحل فرانسوا ميتران التي استلهمت حادثة حقيقية أثارت ضجة في وسائل الإعلام الفرنسية العام الماضي، حول أم قتلت طفليها وخبّأتهما في الثلاجة من دون علم الأب.
العودة للواقعي تعني أيضاً اقتراب الروائيين من لهيب الأزمات السياسية الدولية، مثلما هي الحال مع رواية «فلسطين» (دار «زولما») للكاتب هوبير حداد الذي بنى حبكته في معمعة الصراع العربي الإسرائيلي، وكتب رواية تمزج بين السرد والتحقيق الصحافي. محور الرواية جندي إسرائيلي يضل طريقه ويفقد ذاكرته، ويعيش حياة ثانية مع الفلسطينيين. ثم هناك الكاتب فرانسوا بيغودو وروايته «نهاية القصة» (دار «فيرتيكال») التي استلهم فيها قصة خطف الصحافية الفرنسية فلورانس أوبانا في العراق، وبنى معمار الرواية على لحظة المؤتمر الصحافي الشهير الذي عقدته في باريس بعد تحريرها.
ولا بد من لفت نظر القارئ العربي إلى أن النقاشات التي تثيرها هذه الرواية أو تلك، هي بالنسبة إلى المواسم الأدبية الفرنسية مثل البهارات للطعام: إنّها وسيلة ناجعة لتأجيج نهم القراء وإسالة لعابهم. فالضجة الإعلامية تخدم الكاتب ودار النشر، وتؤدي وظيفة دعائية تروّج للكتاب بلا مقابل. وإذا كانت رواية «المتسامحات» التي كتبها الأميركي جوناثان ليتل بالفرنسية، وفازت بجائزة «غونكور»، تحولت إلى مادة دسمة للصحافة الثقافية العام الماضي، إذ اختلفت الآراء حولها، فقضية الموسم الأدبي الحالي أكثر حدة وإثارة للجدل... لأنّ الأمر يتعلق باتهام بالسرقة الأدبية وهي التهمة الأكثر خطورة وفضائحية في سلم «الجرائم الأدبية».
الخلاف هو بين الكاتبتين كاميل لورنز وماري داريوسيك اللتين تنشران لدى الدار نفسها (POL) منذ أكثر من عشر سنوات. الأولى تتهم الثانية بالسطو على رواية أصدرتها عام 1995 تحت عنوان «فيليب» تحكي فيها تجربة فقدان أم لرضيعها، وهي تجربة عانتها الكاتبة شخصياً عندما توفي رضيعها ولما يتجاوز الشهرين. كامي لورنز أعربت عن صدمتها بعد قراءة آخر روايات ماري داريوسيك التي تحمل عنوان «مات توم» إذ اكتشفت أنّ هذه الأخيرة انتحلت عوالم روايتها بالكامل، ما دفعها إلى كتابة مقال ناري اتهمت فيه زميلتها بالسرقة الأدبية، واستنبطت بالمناسبة مصطلحاً جديداً، هو «السرقة السايكولوجيّة» Plagiat Psychique. وهو تعبير طبي مبهم لم يسبق استعماله في النقد الأدبي. فالأمر لا يتعلق بنسخ فاضح وحرفي من رواية إلى أخرى، بل بانتحال طقوس العمل وفضائه ومعماره وإيقاعه، لكن بكلمات أخرى وجمل مختلفة. «وأنا أقرأ «مات توم»، شعرت كأنّ صاحبته كَتَبَتْهُ في غرفتي، وهي جالسة على كنبتي، أو ممددة على سرير ألمي الشخصي. إن داريوسيك اقتحمت بيتي وسكنته بالقوة»، كتبت كامي لورونز في مقالها.
وعلى رغم دفاع داريوسيك عن نفسها، فهناك بالفعل تقاطعات مشبوهة بين عوالم الروايتين: كلاهما يتحدث بضمير المخاطب عن مأساة فقدان أم لطفلها وصعوبة الحداد والنسيان. إلا أنّ الأمور ليست بهذه السهولة، ولن يكون بتّ القضيّة سهلاً على القضاء لو قررت لورانز أن تعرض قضيتها أمام المحاكم. القضاة مثل النقاد لا يسعهم الجزم بالسرقة، سوى في حالة التطابق التام بين نصي الروايتين. وإنّ القانون الفرنسي لا يحمي الأفكار، ويعاقب فقط أصحاب الأعمال المستنسخة. فكيف يتعاطى القانون مع داريوسيك التي لم تنسخ عمل لورانز، بل تقمّصته وتشبّعت بعوالمه ومناخاته النفسية. وهذه هي المرة الثانية التي تتعرض فيها داريوسيك لاتهام من هذا النوع، إذ سبق للكاتبة ماري نْداي أن اتهمتها عام 1998 بالسرقة الأدبية. واللافت أنها أيضاً ابتكرت مصطلحاً استفزازياً حين أصرت على أنّ القضية لا تتعلق بسرقة موصوفة واضحة المعالم بقدر ما تتعلق بـ«مسخ على طريقة القرود».
ولعل الظاهرة اللافتة هذا الموسم هي عدم وجود «مرشحين نجوم» يحتلون المواقع الأمامية، ويحتكرون حلبة السباق وحظوظ الفوز بالجوائز الأدبية الفرنسية، ما يجعل هامش الاختيار واسعاً، والمباراة مفتوحةً بين 727 رواية في موسم يُجمع المهتمون على أنّه غني بالنصوص الجيدة، من فرنسية وأجنبية، سواء تعلق الأمر بالكُتّاب الراسخين أو بالمواهب الجديدة. ومع ذلك، في انتظار لوائح الكتب المرشحة للفوز بجوائز «غونكور» و«رونودو» و«فيمينا» و«ميديسيس» التي ستُنشر تباعاً ابتداءً من العاشر من الشهر الجاري، ثمّة أسماء تُذكر هنا وهناك، من دون صخب أو قرع طبول: بينها أوليفييه آدم وماري داريوسيك، إضافة إلى بول كلوديل صاحب رواية «تقرير بروديك». وقد أجمعت الصفحات الثقافية لكبريات الصحف والمجلات الفرنسية على تميّز الرواية المذكورة. وهناك أيضاً الروائية الغزيرة إميلي نوتومب التي تُصدر كل سنتين رواية جديدة، في حين أنّها ــــــ على رغم شعبيتها ومبيعاتها المرتفعة ــــــ لم تحصل على أي جائزة عريقة حتى الآن. يضاف إلى ما سبق، الشائعة التي استحوذت على الأوساط الأدبية الباريسية، من أنّ «غونكور» هذا العام ستكون من نصيب ياسمينة رضا التي حوّلت الرئيس ساركوزي شخصيةً أدبية في «الفجر المساء أو الليل». وحتى الآن لم تستعر حمّى التنبؤات، ودور النشر لم تشمّر عن سواعدها، لتدخل مفاوضات الكواليس ودسائس الخريف، فالجوائز الكبرى تكون غالباً ثمرة تحالفات وتواطؤات بين دور النشر... على حساب القيمة الأدبية أحياناً!