عدي الموسوي
كلا، سكان المريخ لن يغزوا الأرض... أما الشائعات فتغزوها منذ فجر التاريخ، بحسب بحث طريف عرّبته «دار الساقي»، ويبدو أن المثقفين أول من يصدقها. نصيحة إلى قرّاء «الأخبار»: استقوا معلوماتكم من السوق السوداء... فالحقيقة تختبئ غالباً في نقيضها


في خريف عام 1938، بثّت إحدى الإذاعات الأميركية تمثيليّة اقتبسها السينمائي الأميركي الكبير أورسون ويلز (وكان في بداياته)، عن رواية The War of the Worlds (حرب العوالم) التي كتبها الأميركي إتش جي ويلز (1898). صوّرت التمثيلية الإذاعيّة غزو سكّان المرّيخ للأرض، وقُدّمت على شكل تقرير صحافي مباشر، ما أضفى عليها طابعاً من الواقعية. وكانت النتيجة إصابة عشرات آلاف المستمعين بحالة شديدة من الذعر. هذه الواقعة التي شهرت أورسون ويلز صاحبCitizen Kane (المواطن كاين)، تشكّل نموذجاً طريفاً، وملموساً أيضاً، لانتشار الشائعة بين الناس، واكتسابها مقداراً من الصدقية بسبب «سلطة» مصدرها (أي الوسيلة الإعلامية) من جهة، ودرجة انسجامها مع الإطار المرجعي للمتلقّين من جهة أخرى.
في «الشائعات» لجان ـــــ نويل كابفيرير الذي صدرت ترجمته العربيّة عن «دار الساقي» في بيروت، نجد أنفسنا أمام دراسة واسعة وشاملة لظاهرة الشائعات، أو الوسيلة الإعلامية الأقدم في العالم بحسب العنوان الثانوي للكتاب. الدراسة، الرصينة والطريفة في آن معاً، ترصد هذه الظاهرة من خلال دورة حياتها، نشأةً وانتشاراً، مروراً بالتفسير المتعدّد للشائعات، وفقاً لتعدد مشارب متلقّيها والاستخدامات المتعددة لها، وصولاً إلى كيفية إخماد الشائعات والوقاية منها أو بالأحرى من آثارها.
قد يُفاجأ القارئ عندما يعرف أنّ الشائعات لم تخضع للدرس والتمحيص بشكل أكاديمي وعلمي، إلاّ عشيّة الحرب العالمية الثانية، وتحديداً في الولايات المتحدة، وذلك بسبب كثرة الشائعات التي كادت تقوّض معنويات الشعب الأميركي. يغوص الكتاب في عدد من تعاريف هذه الظاهرة، إلا أنّ أكثرها دقةً هو التعريف/المعادلة الذي جاء على الشكل التالي: الشائعة = أهميّة الموضوع × الالتباس في التفسير. فكيفما تتبّعنا الأمثلة التي سيفردها الكتاب، لن تخرج عن هذه المعادلة. وكلّما ازدادت أهمية الموضوع بالنسبة إلى العامّة، كثر تناولهم له في أحاديثهم. وكلّما اشتمل الحدث على غموض التفسير أو غيابه، تعددت الشائعات وتفرّعت. من هنا، الشائعة هي السوق السوداء للمعلومات بحسب الكتاب... لكنّها السوق السوداء الأرخص.
يحاول المؤلف أن يفرّق بين الشائعة والوشاية والنميمة، مقرّاً في الوقت عينه بتداخلها أحياناً. ويبيّن أنّ الغرض من الشائعة هو محاولتها تقديم إجابات وتفسيرات لظاهرة تهمّ العامّة، ما يبعد عنها الطابع اللهوي أو الترفيهي الذي يميّز الوشاية والنميمة. ويثبت الكتاب أن نظرية المؤامرة هي قاسم مشترك للتراث الإنساني. فهناك الشائعات التاريخية أي تلك التي تتجدّد من وقت إلى آخر، لتطاول شركات أو مؤسسات صناعية ما، بل إنها تتنقّل من بلد إلى بلد، ومن قارة إلى قارة، حيث تتشارك الشعوب على اختلافها، في تلك الخلفية المؤامراتية التي حسبناها من مختصّات الدول العربية في لحظات ضعفها. وإنّ «ارتباط مؤسسة ما بجهات شيطانية مشبوهة» هو من الأنماط المحبّبة في الشائعات الغربية! وهي في أغلب الأحيان تعبير رمزي لرفض الجماعة لنمط أو أسلوب حياتي مستجد، فتأتي الشائعة بتفسيراتها المؤامراتية كصرخة تحذير.
يغوص الكتاب في قسمه الأوّل في كيفيّة نشوء الشائعة لدى «الجماعة»، وكيف تكتسب صدقية كلما نشأت من داخلها. ويبيّن أن العامل الحاسم في تجذّر الشائعة هو مدى ملامستها لهاجس الجماعة، أو انسجامها مع قناعاتها. فالمعلومة التي تلامس قناعات الجماعة، وتكون صدى لها هي الشائعة الأقوى والأصدق. هكذا تبدأ رحلة تفعيل الشائعة لدى الجماعة تغذّيها عوامل عدّة، بينها تخيّلات العامّة، وعدم دقّة الشهود على الحدث، ووجود عدد من الوقائع المحيّرة، فضلاً عن التشوّه غير المتعمّد الحاصل عند نقل صورة الحدث. وفي هذه العوامل، سيكون للصوت الجمعي أو صوت العامة أثره الحاسم في توجيه الشائعة وتظهيرها. فالشاهد الدقيق سيبتلع شهادته، أو يشك فيها، عند تعارضها مع الصوت الجمعي... فيما يتلاشى صوت المنطق لو قدّمت الشائعة موقفاً مصرّفاً لانفعالات الجماعة وأحاسيسها المكبوتة. ولا ينبغي أن ننسى أن الشائعة تكتسب دفعاً مهمّاً من خلال صدق ناقلها، على رغم أنّه ناقل وليس مصدراً، وعلى رغم أنّ مصدره غير معروف ومستتر خلف العبارات السحرية: «يقال بأنّ» و«بحسب صديق مقرّب»، «أكّد لي مصدر مطّلع»، إذ تبيّن كل عبارة موقف الناقل مما ينقله، بينما يؤثر صدق الناقل، أو بالأحرى مدى مقبوليته وانتمائه للجماعة، في مدى مقبولية الشائعة وانتشارها لدى باقي أفراد الجماعة.
ولدى الحديث عن الجماعة بكل أطيافها، يبيّن الكتاب أن المثقّف هو جزء من الجماعة المندمج بمرجعياتها التي ستسوّغ له قبول الشائعة، بل إنّه يفتقر غالباً إلى القراءة النقدية المناسبة حتّى لو تعارضت مع البديهيّات التي يفترض أنّه يعرفها ويؤمن بها. فبمجرّد أن تحتشد التفاصيل الدقيقة في شائعة ما، سيتلاشى صوته المعارض بل قد يغدو واحداً من أهم ناقليها والمؤمنين بها، وخصوصاً عندما تبيّن لنا إحصاءات الكتاب أن المثقفين هم الأكثر تصديقاً للشائعات، إذ إنّ المثقّف عامةً هو أقرب إلى «السلطة» ومؤسساتها، في حين أن الشائعة زاد العامة وصوت يتمرّد على الصوت الرسمي. لذا يسعى المثقف عبر هذا التصديق إلى إرساء نوع من التوازن بين مصادر معلومات السلطة ومصادر العامة.
في هذا الكتاب الممتع، الحافل بالشواهد المتنوّعة، نمضي في رحلة مع كائن شفاهي بامتياز، إنساني بصدق في هشاشته وقوّته في آن، في موته وانبعاثه بين حين وآخر، في انتقال جيناته الوراثية من جيل إلى آخر. منتج بشري خيالي ليس بينه وبين الخرافة والأسطورة إلاّ خط رفيع، بل لعل الأساطير في نشأتها كانت شائعة بشكل ما. فلو أخذنا مقولة الكتاب بأن الغرض الأساسي للشائعة هو تفسير الغوامض من الأمور، فسيخطر في بالنا على الفور أن التراث الأسطوري للإنسان لم يكن إلاّ رأياً في تفسير الظواهر الماورائية... ورغبة في تهدئة هواجس الجماعة بين الدنيا والآخرة.