غزة ــ رائد لافي
فيما تشتد ضراوة النزاع بين «فتح» و«حماس»، يعيش الصحافيون الفلسطينيون بين نارين: الحياة اليومية، ومخاطر المهنة من اعتقال ومطاردة ومحاولة اغتيال... كيف يمكن البحث، وسط هذه المعمعة، عن المناقبية المهنية؟

لم يحتمل الصحافي حسن جبر الاستمرار في مهماته عضواً في لجنة حماية الصحافيين في نقابة الصحافيين الفلسطينيين في قطاع غزة.
وذلك لعجزه عن حماية زملائه في ظلّ تنامي الاعتداءات والانتهاكات بحق حرية الصحافة والرأي والتعبير... هكذا استقال جبر وعدد من أعضاء اللجنة، تحت ضغط الهموم اليومية التي يعانيها زملاؤهم، والتي وصلت إلى حد الضرب والشتم والاعتقال ومصادرة آلات التصوير من جانب القوة التنفيذية التابعة لوزارة الداخلية في حكومة الوحدة المقالة في القطاع.
ويقول جبر: «استقلتُ لشعوري بأنني لا أستطيع حماية الصحافيين من المخاطر التي تضاعفت عقب عملية الحسم العسكرية التي أفضت إلى سيطرة حركة «حماس» على القطاع، في 14 حزيران (يونيو) الماضي». لكنه، في المقابل، يشدد على أن «حرية العمل الصحافي جزء لا يتجزأ، سواء في الضفة الغربية أو في قطاع غزة»، مشيراً إلى أن الفريقين المتصارعين («فتح» في الضفة و«حماس» في غزة) يمارسان انتهاكات بأشكال مختلفة ومتعددة بحق الصحافيين، في محاولة منهما لإخفاء ما يمارسانه في الميدان. وفي ظل التجاذبات السياسية الخطرة والحادة التي أفرزتها الأزمة الداخلية، فإن الصحافي الفلسطيني يدفع الثمن، لكون الطرفين غير متعاونين ولا مقدّرين لطبيعة مهماته، بحسب جبر.
ويتنافس الطرفان، خلال الأزمة السياسية الحادة، في الانتهاكات التي طاولت حرية العمل الصحافي والإعلامي. وها هو قرار منع صحيفتي «فلسطين» اليومية، و«الرسالة» الأسبوعية، المقربتين من حركة «حماس» من الطبع والتوزيع في الضفة، يدخل شهره الثالث على التوالي. وعقب الحسم العسكري في القطاع، اضطرت الكثير من الصحف والإصدارات والمواقع الإلكترونية والإذاعات المحلية الموالية والتابعة لحركة «فتح» إلى الإغلاق تماماً، فيما اضطر بعضها إلى الانتقال إلى الضفة. ووفقاً لجبر، فإن «الصحافيين الفلسطينيين أصبحوا يمارسون الرقابة الذاتية على أعمالهم بشكل أشدّ، بعد عملية الحسم العسكري، خوفاً من غضب أي طرف من طرفي النزاع»، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن الطرفين يقعان دوماً في نوعين من الأخطاء: إما تضخيم الحدث أو نفيه تماماً.
حال الخوف التي تسيطر على عمل الصحافيين الفلسطينيين في شطري أراضي السلطة، دفعت بعضهم إلى السخرية، على اعتبار أن شرّ البلية ما يُضحك. ويقول حازم بعلوشة، مراسل صحيفة «الراية» القطرية معلقاً: «يجب على كل صحافي توفير ميزان من ذهب في مكتبه، حتى يزن أعماله ولا يثير غضب أي طرف».
وبحسب بعلوشة فإن الصحافيين ليسوا طرفاً في الصراع، وعلى «الفرقاء» أن يدركوا جيداً «أننا نقف على مسافة واحدة من الجميع»، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن «الصحافيين الفلسطينيين، والشعب، يتمنّون انتهاء الخلافات التي تعصف بمستقبل البلاد». وخصّ بعلوشة، المقيم في مدينة غزة، القوة التنفيذية بالجانب الأكبر من حديثه، وقال: «يجب على حكومة اسماعيل هنية إخضاع أفراد القوة لدورات تأهيلية لأنهم غير متمرسين في تسيير شؤون الناس، ما داموا قد أصبحوا الحكام الفعليين لقطاع غزة». ووقع الصحافيون، بحسب بعلوشة، «ضحية الخلافات بين حركتي «فتح» و«حماس»، مشيراً إلى أن كل طرف يحاول أن «يجيّر» الصحافيين لخدمة مصالحه والترويج لروايته من التطورات كلها.
ويحاول أفرقاء الساحة الفلسطينية «التغني» بصون الحريات العامة وحرية الرأي والتعبير في المنطقة الجغرافية التي يسيطر عليها كل طرف، لكن بما يخالف الواقع الحقيقي. ففي الضفة الغربية التي تعرّض فيها الصحافيون والمؤسسات القريبة من حركة «حماس» للاعتقال والمداهمة والتخريب، يمنع الخوف هؤلاء من نقل مجريات الأحداث خوفاً من الملاحقة والاعتقال.
في المقابل، تحاول حركة «حماس» وحكومتها المقالة برئاسة اسماعيل هنية في القطاع، باستمرار إبداء الحرص على «احترام» الصحافيين وحماية حقوقهم. غير أن هذه «المحاولات» تتحطم دوماً على صخرة الممارسات الفردية لعناصر القوة التنفيذية.
انطلاقاً من هنا، تقول سمر شاهين، الصحافية في جريدة «القدس» المحلية: «لطالما بحث الصحافي عن حرية التعبير عن الرأي بمعناها الحقيقي، وتجسيد ذلك على أرض الواقع يتطلب من المسؤولين ـــــ على اختلاف مسمياتهم ـــــ فعلاً لا قولاً، كما يحصل في غزة أو في الضفة الغربية».
وترى أن «الصحافي يحتاج إلى مساحة كبيرة من الحرية للقيام بمهماته من دون رقيب أو حسيب، إلا ضميره الصحافي نفسه الذي يُحتم عليه أن يكون معول بناء، لا معول هدم». وتقول إن «انتهاك حرية الرأي والتعبير، وحرية الصحافة هو العلامة الأولى على التعدي على الحريات العامة الأخرى». وتضيف بحماسة: «ما دام هناك تنوع في الرؤى، فلا بد من وجود تنوع في الرأي والخطاب، ولا بد من احترام الرأي والرأي الآخر، مع ضرورة وجود حرية الصحافة والتعبير في ظل الدستور وتفعيل القوانين التي تضمن هذه الحقوق، في ظل قضاء مستقل ونزيه».
أما سمير حمتو، الصحافي في «الحياة الجديدة» الصادرة في رام الله، فيقول إن «مساحة الحرية لا يمكن قياسها بمعيار معين ومحدد بقدر ما هي متعلقة بسياسة عامة، ونهج عام تتخذه الجهات المسؤولة في غزة والضفة الغربية». ويشرح: «على رغم أننا نسمع عن حرص المسؤولين على حماية الحريات وصونها، يبقى ما نراه على أرض الواقع غير ذلك تماماً»، مشيراً إلى أنه «من غير المعقول التذرع دوماً بأن الانتهاكات ضد الصحافيين مجرد ممارسات فردية».
ورأى حمتو أن «قطاع غزة تحت المجهر الآن، وهناك جهات تحاول تضخيم أي حدث مهما كان صغيراً، الأمر الذي يستدعي من الحكومة والجهات المعنية وضع حد لهذه التصرفات التي تسيء إلى حرية الصحافة».
هذه الحال من التجاذبات والمناكفات بين «رأسي السلطة»، وفي ظل غياب جسم نقابي قوي يحمي الصحافيين ويدافع عن حقوقهم، دفعت الكثير من الصحافيين إلى «التشبث» باستقلاليتهم ومهنيتهم، بعيداً عن «أتون الحرب الإعلامية الشرسة»، بحسب الصحافية المستقلة إسلام الأسطل.
وتختصر الأسطل التعريف بنفسها بقولها «أنا فلسطينية وكفى»، متسائلة: «لماذا يحاول الطرفان إقحامنا في معركة لا ناقة لنا فيها ولا جمل؟». وتقول إن الطرفين حرفا بوصلة العمل الإعلامي، وأجبرا الصحافيين على تحويل عدسات الكاميرا وأقلامهم، لمتابعة تطورات الأزمة الداخلية، في وقت تستغلّ فيه قوات الاحتلال الخلافات الداخلية، لارتكاب مزيد من الجرائم.




حروبٌ في النقابة

لعلّ ما يزيد من «الوهن» الذي يعتري الحياة الإعلامية في فلسطين، أن نقابة الصحافيين ليست «بيتاً» لكل الصحافيين. وذلك بفعل سيطرة «فتح» عليها منذ آخر انتخابات جرت في عام 1999. وبعدما كان من المقرر إجراء انتخابات النقابة ـــــ استجابة لضغوط من الاتحاد الدولي للصحافيين ـــــ مطلع شهر أيلول (سبتمبر) الجاري، دفع الواقع الجديد في غزة، عقب «الحسم العسكري»، إلى تأجيلها من جديد. ويقول صخر أبو العون، عضو مجلس إدارة النقابة، فتحاوي الانتماء: «ننظر في النقابة ببالغ الخطورة للحريات في القطاع والضفة، خصوصاً منع الصحافيين من التغطية وإقصاءهم أو محاولات اختطافهم واعتقالهم. إضافة إلى منع صحف من التوزيع في الضفة، وإذاعات من البث في غزة».
في المقابل، لم يستثن شمس عودة، عضو لجنة حماية الصحافيين في النقابة، الصحافيين أنفسهم من المسؤولية عن حالهم المأساوية، لكونهم «يحاربون أنفسهم بأنفسهم، في ظل تفكك الجسم الصحافي في القطاع وترهّله». ويتهم غالبية الصحافيين بأنهم «مسيسون وينفذون أجندات مختلفة»، مشدداً على «دور النقابة في البعد كل البعد عن الأجندات السياسية، والعمل بحيادية من أجل الصحافيين وحرياتهم جميعاً». ويطالب عودة النقابة «بالعمل سريعاً على إيجاد آلية لوضع كل الصحافيين في جسم واحد، بعيداً عن التكتلات والمصلحة الحزبية الضيقة».
وواجهت النقابة، ومن خلفها حركة «فتح»، خلال الأعوام الماضية كثيراً من «سهام النقد» اعتراضاً على أوضاعها المتردية. لكنها لم تستطع أن تواجه ظاهرة نشوء أجسام وتكتلات حزبية، بينها كتلة الصحافي الفلسطيني الموالية لحركة «حماس». ويرفض ياسر أبو هين، رئيس الكتلة، «كل أشكال الاعتداءات على الصحافيين والمؤسسات الإعلامية أياً كانت الجهة التي ترتكبها»، مشدداً على «أننا بصفتنا كتلة مهنية لن نميز بين طرف وآخر، ولن نسمح بعودة العهد الأسود الذي كان يضرب فيه الصحافي ويُهان». ويصف ما يحدث في الضفة أخيراً بـ«مجزرة في حقّ الإعلام الفلسطيني»، في ظل استمرار دهم المكاتب واعتقال صحافيين محسوبين على «حماس» ومطاردتهم ومحاولة اغتيالهم. ويرى أن «هناك حالة رهيبة من التهديد والوعيد تمارس ضد الإعلام في الضفة من حركة «فتح» والأجهزة الأمنية، وهو ما يفسر حالة التعتيم الكبيرة تجاه الاعتداءات والملاحقات». أما الحل بالنسبة إليه، فيكمن في «إيجاد جسم صحافي نقابي مهني ووطني من خلال انتخابات عاجلة وشفافة لمجلس النقابة لإحيائها وإخراجها من حال العجز والشلل».
موقف النقابة «المتباين» من الانتهاكات ضدّ الصحافيين في الضفة وغزة، دفع «حكومة هنية» إلى «مقاطعة» التعامل مع «نقابة غزة». فيما موقف حركة «حماس» واضح من «نقابة الضفة»، على أنها منحازة تماماً لمصلحة «الرواية الفتحاوية»، وتغض الطرف عن انتهاكات الأجهزة الأمنية. لكن «حكومة هنية» تقر بوجود تجاوزات واعتداءات من عناصر القوة التنفيذية بحق الصحافيين في غزة. لذا، عملت على وضع حد لها من خلال تأليف اللجنة الحكومية للتواصل ودعم الصحافيين. غير أن هذه اللجنة التي بذلت منذ تأليفها أخيراً جهوداً مضنية، لم تتمكن من القضاء تماماً على الاعتداءات المتكررة.
ويقول طاهر النونو، رئيس اللجنة والمتحدث باسم الحكومة، إن «الحكومة توفر على مدار الساعة حماية للعديد من المقار والمؤسسات الاعلامية». ويقرّ بوقوع بعض الاعتداءات على الصحافيين في غزة «لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة»، غير أن «اللجنة قامت فوراً بالتحقيق فيها ومعرفة مكامن الخلل لمعالجتها»، مشيراً إلى أن «لا قرار سياسياً بمنع الصحافيين من العمل في غزة، عكس ما يجري في رام الله».