عمان ــ نوال العلي
  • إسرائيل تحاكم الفنّان الفلسطيني بتهمة الإساءة إلى الجيش!

  • إنه أحد ألمع ممثلي المسرح الفلسطيني. على الخشبة قدّم إميل حبيبي وحنا مينة والطيب صالح. ومن خلال السينما، نقل معاناة شعبه إلى العالم. اليوم، تبدأ محاكمته في اسرائيل بسبب فيلمه «جنين... جنين». من حيفا إلى نيويورك، انطلقت حملة التضامن العالمية مع محمد بكري

    تبدأ اليوم محاكمة المخرج والممثّل الفلسطيني محمد بكري، بموجب دعوى أقامها عليه خمسة جنود في الجيش الاسرائيلي، بتهمة القذف والتشهير. تستند الدعوى إلى مقاطع من فيلم «جنين جنين» الذي حاز جوائر في مهرجانات عدّة بينها «أيام قرطاج السينمائيّة» (2002). والشريط الوثائقي المذكور أدخل صاحبه في نفق طويل، من جرّاء تشدد الرقابة الاسرائيلية على أعماله. ويسجّل «جنين جنين» الفظائع التي ارتكبها الاحتلال الاسرائيلي خلال اجتياحه مخيّم جنين في عام 2002.
    وتنطلق محاكمة بكري اليوم، على وقع حملات تضامنية بدأت من حيفا وانتهت في نيويورك. إذ عرض «جنين جنين» مساء أمس الاثنين في أحد مقاهي حيفا، حيث التفّ حوله جمهور مختلط من المثقفين والمبدعين والمشاهدين العاديين، بينهم عدد لا بأس به من الاسرائيليين التقدميين. فيما تألّفت في نيويورك لجنة دفاع عنه، وأعلن عن تنظيم أمسيتين لجمع التبرّعات، سيحضرهما بكري في 25 و 26 من الشهر الجاري. وقد بعث بكري رسالة إلكترونية الى أصدقائه علّهم يمدّون له يد المساعدة لتأمين الأتعاب المالية لمحاميه الذي يبدو متشائماً من وقائع المحاكمة، خصوصاً أنّ بكري يواجه خطراً حقيقياً قد يصل حدّ سجنه.
    وهذا الممثل الفلسطيني الفذّ الذي دخل متأخراً مجال الإخراج السينمائي، لطالما وجد نفسه أمام الرواية الإسرائيلية للواقع وأمام التفاصيل التي تجعله يصفته عربياً في «الطابور الخامس» مضطراً للدفاع عن هويته، وعن الأكثرية الشرعيّة التي تحوّلت أقليةً تسمّى «عرب 48»: «أنا مش مطبع، وإلّي بيحكوا عني هيك ياكلوا...». محمد بكري (1953) وجد نفسه مواطناً إسرائيلياً «شاء أم أبى». لكنّه كان من أوائل فلسطينيي 48 الذين عملوا في المسرح الإسرائيلي، وقدّموا مسرحيات بالعبرية التي يتقنها ويسمّيها في الوقت عينه «لغة العدو». في عام 1976 مثلاً، لفت أنظار العالم بمسرحية «مشهد من الجسر» لآرثر ميلر التي قدّمها بـ «لغة العدوّ»!
    حركاته العفوية وكلماته وعصبيته وحركات يديه وهو يسترسل في الذكريات كانت جزءاً أساسياً من الحوار. وقد أمكن عبرها رصد الكثير من التناقضات التي يعيشها بصفته عربياً فلسطينياً يحمل جنسيّة المحتل. يتذكّر بكري هزيمة 1967. يستعيد مشهد والده مع عشرين رجلاً آخرين يدخّنون ويبكون بحرقة. يقول: «فهمت يومها أنّ الفلسطيني مخلّص نفسه، ولن يكون هناك مخلّص لا من العرب ولا من أصحاب اللحى».
    عرف بكري نفسه شيوعياً. إذ انضم إلى الحزب منذ السابعة، وكانوا يطلقون على فئة الأطفال الشيوعيين في ذلك الوقت «أبناء الكادحين». ثم وجد في إميل حبيبي مثَله الأعلى في المقاومة من الداخل، فيما كان غسّان كنفاني نموذجاً للفلسطيني المناضل في الخارج. من خلال اللغة تعلّم أن له هوية... حتى وجد فيها ملجأه الأخير. فبلده احتُلّ وطُمست معالمه، ولم يبق له إلا اللغة... واللغة وطن. إلا أنّه ظل منفياً عن لغته، يمثل على المسارح العبرية. لا يخفي بكري أنّه تعلّم الكثير من المسرح الاسرائيلي: «هناك أتقنت التمثيل وتعرّفت إلى فنانين كبار لم يبخلوا عليّ بخبراتهم». على خشبات اسرائيل تآلف مع كلاسيكيات شكسبير وأعمال إبسن، وجسّد دور امرأة في مسرحية لوركا «برنار دا ألبا». لكنّه يضيف: «شعرت بالغربة وأنا أتحدث العبرية، وأعمل في المسرح العبري، فيما أنا فلسطيني يسكن في رأسي كنفاني وحبيبي ودرويش». وتذكر ما قالته له معلّمته اليهودية ذات يوم: «لن تكون فناناً كبيراً إلا عندما تحكي قصة بلدك».
    في عام 1986، حوّل بكري رواية إميل حبيبي إلى المسرح، وعرض «المتشائل» في المدن الإسرائيلية، ثم العربية. وانتقل بها إلى مختلف أنحاء العالم، حيث عرضت وترجمت إلى الإيطالية والفرنسية والألمانية. وكان عرضها هذا العام في اليابان.
    حضر أبو سلام (إميل حبيبي) العرض الذي استمر 21 عاماً أكثر من 150 مرة، ولم يغيّر أي شيء في نصّ المسرحية الأصلي. الا أنّ بكري راح يضيف إليها كل يوم ما استجدّ من أحداث ومذابح وخسارات. ومن المحطات الأساسية في مسيرته مسرحة روايتي حنّا مينا «الياطر»، والطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال».
    وبكري الذي يعيش في قرية البعنة (الجليل) حيث ولد فيها جدّه وأبوه وأبناؤه الستّة، لا يرى ضيراً في تعاونه مع المؤسسات الإسرائيلية الرسمية أو غير الرسمية: «تعدّني السلطة الاسرائيلية «مواطناً». وهذا المواطن يدفع الضريبة والفواتير للدولة، ومن حقّه أن يستفيد من هذه المواطنة المزعومة». الا أنّ الأمر مختلف للفلسطيني الذي يعيش في المخيم أو رام الله أو أي منفى، «فلا يجوز له التعامل مع مؤسسات إسرائيلية. وإذا كان 120 ألف أكاديمي في لندن يقاطعونها، فكيف يمكن أن يتعامل معها الفلسطيني وعلى أي أساس؟».
    يصف بكري حربه مع إسرائيل بأنّها حرب ثقافة ووجود. ويجد نفسه بصفته مبدعاً مجبراً على خلق روايته الفلسطينية البديلة «الموجهة» للإسرائيليين. «ليس أمامي بديل آخر سوى الانتحار، وأنا بدي أعيش وبدي ضل قاعد على قلوبهم وأحترم كل طريقة نضال لا تتعدى الحدود الحضاريّة التي هي من صلب أخلاقي انا العربي الفلسطيني»!
    في السينما، بدأ بكري ممثلاً عام 1983 في عمل «حنه ك»، أول وآخر فيلم يطرح مسألة حق العودة مع المخرج كوستا غافراس. ثم توالت أدوار البطولة في أعمال سينمائية إسرائيلية وفلسطينية مثل «من وراء القضبان» (1984) و«نهائي كأس العالم» (1991) و«درب التبانات» (1997) و«Private» (2004). فماذا قدمت تلك الأفلام في «حربه الثقافية»؟ «جسّدت في أدواري صورة مختلفة عن تلك التي ألفتها السينما الإسرائيلية للفلسطيني، إذ قدّمته همجياً وسخاً جاهلاً وعنيفاً. خلق النموذج الجديد والوجه الإنساني للفلسطيني على الشاشة: «شب حليوة وعاشق وشاعر أو سجين بطل».
    ولادته الثانية مخرجاً سينمائياً بدأت قبل عقد بفيلم «1948» (1998) الذي يوثّق لخمسين عاماً على النكبة، بعدما استفزته الحقائق المزيفة التي شاهدها في وثائقي إسرائيلي ضخم بعنوان «النهضة» عرض نصف قرن من قيام الدولة الإسرائيلية. أما «جنين جنين» الذي أحدث ضجة كبيرة وتسبّب بمنع أفلامه في اسرائيل، فتضمّن مجموعة شهادات من سكان جنين بعد الاجتياح الإسرائيلي للمخيّم عام 2002.
    وجاء شريط «من يوم ما رحت» (2005) الذي يبدأ بزيارة محمد بكري لقبر إميل حبيبي، مستعيناً بأشرطة وثائقية ومواد مصورة تسجيلية، ليسرد المتاعب التي يواجهها الفنان بسبب «جنين جنين» والتحولات السياسية التي طرأت على البلاد منذ رحيل أبي سلام. ويعمل بكري حالياً على فيلم «أبو ليلى» (سيناريو وإخراج رشيد مشهراوي) الذي تدور أحداثه حول قاض في عطلة قضائية منذ عشرة أعوام.

    www.mohammadbakri.com