strong>عثمان تزغارت
قبل عشرة أعوام، حقّق كتيّب صغير بعنوان «لباس الغطس والفراشة» (منشورات روبير لافون ــــ باريس) نجاحاً قياسياً. إذ بيع منه مليون نسخة في 23 لغة عبر العالم. ولم يكن أحد يتصوّر أنه سيعود ليتصدّر قوائم الكتب الأكثر مبيعاً في معظم الدول الغربية، خلال السنة الحالية، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ صناعة النشر على الإطلاق. وهو ما لم يكن ليتحقق لولا سحر
السينما.
إذ أُعيد اكتشاف الكتاب إثر اقتباسه سينمائياً في فيلم يحمل العنوان ذاته (إخراج السينمائي والتشكيلي الأميركي جوليان شنابل)، اعتُبر تحفة فنية وإنسانية من أجمل ما عُرض في مهرجان «كان» الأخير ونال جائزة أفضل إخراج.
«مهرجان تورنتو» يكون عادةً بمثابة ميزان لقياس حظ الأفلام في التنافس على جوائز الأوسكار. لذا، فالحفاوة الكبيرة التي استُقبل بها «لباس الغطس والفراشة» في تورنتو تضعه في صدارة الأعمال المؤهّلة لإحراز الجوائز الهوليودية الأبرز لهذا الموسم. وإذا صدقت هذه التكهنات، وكان لفيلم شنابل الجديد نصيبه من الأوسكارات في شباط (فبراير) المقبل، فذلك يعني فتح المجال واسعاً أمام اقتحام الفيلم لصالات العرض العالمية، وبالتالي عودة الكتاب في المناسبة ـــــ للمرة الثالثة! ــــ إلى صدارة المبيعات عالمياً...
فما قصة هذا الفيلم؟ إنّها تراجيديا إنسانية واقعية وقاسية تعود إلى 1995، حين تعرّض الصحافي الفرنسي جان دومينيك بوبي، رئيس تحرير مجلة Elle النسائيّة آنذاك، لسكتة دماغية تسببت في إصابته بالشلل وبمرض نادر يدعى «الانغلاق الدماغي الداخلي».
هذا المرض نقع على وصف بعض عوارضه في رواية ألكسندر دوما «كونت دي مونتي كريستو» (١٨٤٤)، ثم في احدى روايات إميل زولا (١٨٦٨)، لكن الطب لم يشخّص أول حالة لهذا المرض إلا عام ١٩٤٧، ولم يطلق عليه الاسم المتداول اليوم locked-in syndrome إلا بعدها بعشرين سنة... والمُصاب بعارض «الانغلاق الدماغي الداخلي» يحتفظ بكل وظائفه الدماغية سليمة، بحيث يعي ويسمع ويرى كل ما يدور حوله، لكنه لا يستطيع التواصل مع العالم الخارجي الا عبر تحريك جفني عينه اليسرى.
تمسّك جان دومينيك بوبي بالحياة، رغم قسوة مصابه. وبمساعدة زوجته، استطاع بعد جهد خارق ومعاناة مؤثرة استغرقت عامين كاملين، أن يكتب هذا الكتاب عبر تهجئته حرفاً حرفاً، بواسطة حركة إغلاق جفنيه وفتحهما، على لوحة أبجدية مثبتة أمامه. وبذلك استطاع أن ينقل لأولّ مرة شهادة حية، من داخل التجربة المعيشة، عن هذا المرض النادر والمرعب. فكان كتاب «لباس الغطس والفراشة» الذي حقق رواجاً واسعاً. ولباس الغطس هنا هو رمز لذلك القالب الذي يسجن الجسد فيما الفراشة اشارة الى الجحريّة وتحليق
الروح...
وكانت قصة جان دومينيك بوبي مؤثرة في مواجهة هذا المرض الشرس والعبثي الذي حرمه القدرة على التواصل، ليغرقه في عزلة إجبارية قاسية لا تُطاق بالنسبة إلى صحافي مرموق مثله، كان يرى موهبة التواصل ملَكته الأساسية. وبمرور الأسابيع والأشهر ــــ عاش بعد الإصابة قرابة عامين ونصف العام ــــ بدأ يستعيد إرادة الحياة، وصار يرى كل يوم جديد يحياه «هدية من السماء». خصوصاً أنّ المرض جعله يلتفت تدريجاً لمتع حياتية صغيرة، لم يكن يدرك قيمتها في الحياة الصاخبة التي كان يعيشها قبلاً. وإذا بكتابه ينقله من أجواء الفجيعة والصدمة التي أتبعت الإصابة، إلى عوالم رحبة من التفاؤل وحب الحياة. ما جعل هذا الكتاب ــــ الوصية بمثابة أنشودة أمل استطاع عبرها أن يروّض قسوة المرض وعزلته وآلامه...
وقد وجد شنابل في تلك الشهادة مادة سينمائيّة مغرية. راح يبحث عن الأحاسيس البصريّة... صوراً قد تبدو للوهلة الأولى عاديّة، لكنّه يعطيها قوتها ونبضها الخاص من خلال تلك القدرة السحريّة للشاشة على اعادة تمثّل الحياة. وإذا بمشروع نقل تلك التجربة الفريدة، يستحيل أمام كاميراه، رحلةً روحيّة (وبصريّة حكماً) إلى أقصى حدود الطبيعة البشريّة. وكان زميله الفرنسي جان جاك بينيكس قد حقق عام ١٩٩٧ فيلماً تسجيلياً قصيراً (٢٧ دقيقة) لمحطة BBC، عن ذلك المرض بعنوان «في الإقامة
الجبريّة»...