حسين بن حمزة
يلتقط طارق الطيب المواد الأولية لنصوصه الشعرية من مشاهداته وأفكاره اليومية. المشاهدات والأفكار في متناول كل الشعراء طبعاً، لكن سيرة هذا الشاعر (هوية سودانية ونشأة مصرية وإقامة نمساوية) تجعل الخلاصات الشعرية المنتزعة من هذه المواد مختلفة وذات سياق تخييلي خاص. علاوة على ذلك، يلاحظ القارئ أن نصوص مجموعته الجديدة «بعض الظن» (“دار آفاق” ــــ القاهرة) مكتوبة في أماكن عدة يصر الشاعر على تذييل أعماله بها، حتى أن بعضها مكتوب في مقاهٍ وقطارات. وهذا ما يُلصق بها طابع المدوّنات المأخوذة من وجهة نظر شخص يمتحن قدرته على تحويل الانطباعات الفورية والطازجة إلى كتابةٍ تؤرخ للزمن الحاضر. ثمة رغبة واضحة لدى الشاعر في إخضاع الواقع لممارسات الخيال. جزء من الطموح الشعري موجود في المراقبة المستمرة لمشاغل الحياة والتقاط ما هو شعري أو يصلح أن يكون شعراً فيها.
لا يهتم الشاعر إن نتجت قصيدته من استعارة واحدة، أو إذا طالت وتسرب السرد العادي إليها. الشروط المسبقة ليست مهمة هنا، لكن ذلك قد لا يعفي قصيدته من تشدّد بعض القراء الذين يهمهم أن يجدوا الكثافة والصورة المدهشة في طيات أي قصيدة نثر حتى لو كانت تطمح إلى تحقيق ذلك من خلال نثر مفرط في نثريته.
لعل طارق الطيب لا يُلام على صنيعه هذا، فالنثرية، حتى المفرطة منها، باتت سمة من سمات هذا النوع من الشعر الذي اتُفق على تسميته «الشعر اليومي» أو «شعر التفاصيل». كذلك الشاعر غالباً ما يبحث عن الشعر في مكان آخر. ثمة رغبة طموح في استخلاص حكمة مبتكرة أو فلسفة ذاتية واعتبارها غاية شعرية بحد ذاتها. الواقع أنّ معظم نصوص طارق الطيب تحفر في هذا الموضع، أي تحويل المشاهد اليومية إلى كتابة راسخة ومنحها ديمومة تتجاوز حدوثها العابر والزائل. حينها لا تكون المشاهد ذاتها مهمة بقدر الشعر الذي يمكن التنقيب عنه فيها، مثلما هي الحال في قصيدة «الكلب المقدوني»: «الكلب الذي ينبح الآن في الخارج/ لا يُدرك أنني أكتب عنه/ كأنني أعني أنه لو يدرك/ لفعل شيئاً آخر / لابتسم مثلاً/ أو زاد من نباحه/ أو توقف/ الكلب ينبح/ ويعرف لِمَ نبح/ وأنا أكتب/ ولا أعرف لِمَ أكتب».
بهذه الطريقة، يصغي الشاعر إلى ما يحدث حوله، في القطار والمقهى والشارع.. بعدها يأتي عمل المخيلة، لنقرأ: «البعض يقلّب الصفحات/ لينسى/ البعض يقلب الصفحات/ ليتذكّر/ البعض/ يقلّب الصفحات».
ينقّب طارق الطيب عن الشعر في أصغر التفاصيل، وغالباً ما يعود بكنوز ثمينة ولامعة، لكنه يعود بما هو عادي أحياناً، مثلما في محاولته كتابة شيء عن العنصرية: «ببهجة ودهشة الطفولة/ يستطيعون أن يستوعبوا كل ألوان الدنيا/ وفي فهم ألوان البشر/ يتعسرون كثيراً».