معمر عطوي
هل البعد «الرومانسي» هو كل ما بقي من الشيوعية في دمشق؟ ماذا بقي اليوم من هذه الحركة التقدمية التي حملت الوعي الثوري عربياً، وصولاً الى السعوديّة؟ في كتابه «اليسار السوري في واقعه الراهن» (دار عشتروت)، يقدم الباحث سلامة كيلة مساهمة جادة في الإجابة عن هذا السؤال

يكتسب الحديث عن حركة يسارية سورية أهمية مزدوجة، في ظل حكم الحزب الواحد الذي ذابت فيه الايديولوجيات، تماهياً أو استسلاماً، عبر عقود. يكمن البعد الأول في ما يمكن تسميته عراقة اليسار السوري متمثّلاً بالحزب الشيوعي الذي لم يكن محصوراً بسوريا فحسب، بل امتد الى ما يعرف بسوريا الطبيعية. إذ كان على المستوى اللبناني السوري حزباً واحداً، قبل أن تبرز عوامل تنظيمية داخلية وسياسية في كلا البلدين، قسّمت الحزب الى حزبين. أمّا على المستوى الأردني والسعودي، فكان لليسار السوري الفضل في نشر مبادئه وأفكاره في مثل هذه البلدان التي لم تكن أنظمتها منفتحة على دول المنظومة الاشتراكية، مثل دمشق. أما البعد الثاني، فيتمثل في مدى استفادة النظام السوري البعثي من هذه الحركة النقابية العمالية. إذ كان يحتاج الى شعاراتها، مع بداية انغراسه في الحقل السياسي المتعطش إلى التغيير في وجه الاقطاعيات. هذه النقاط يتناولها «اليسار السوري في واقعه الراهن» للكاتب سلامة كيلة الذي صدر عن «دار عشتروت» في بيروت (تُصدر أيضاً مجلة «عشتروت» الفكرية الثقافية).
يمثّل الكتاب تجربةً غنية تحفل بالمعلومات والأحداث والمفاصل الأساسية التي مرّ بها اليسار ممثلاً بالحزب الشيوعي السوري. وهو يؤلّف مادة أرشيفية تحتاج اليها المكتبة العربية، خصوصاً أنّه لم يصلها الكثير عن المشهد السياسي السوري الغارق في أحادية الحزب الواحد، فيما تسعى الأحزاب الأخرى الى التماهي في «جبهته التقدمية» الى درجة الذوبان أو معارضة النظام وتالياً اختيار السجن أو المنفى في ظلّ محاولات فاشلة للالتفاف على السلطة.
يقصد سلامة كيلة باليسار السوري، اليسار الماركسي الشيوعي الذي مرّ بمراحل كثيرة ومتنوعة، حاولت خلالها الإنتلجنسيا «المتنوّرة»، المشبعة بأفكار الماركسية اللينينية السوفياتية، تحقيق الاستقلال والتطوّر والوحدة القومية. كان ذلك قبل 1937، العام المفارقة في حركة الشيوعيين السوريين الذين ظلُّوا حتى أواسط الستينيات يدعمون التطور الرأسمالي «عبر الالتحاق بالبورجوازية تحت شعار تحقيق الديموقراطية في إطار سيادة الملكية الخاصة».
أمّا المرحلة الثالثة فشهدت التحاق الحركة الشيوعية بالنظام الذي كان يُمثّل الفئات الوسطى والريفية، ويطمح الى تدمير البنى (الإقطاعية) القديمة، ويدعو الى تدخّل الدولة في البناء الاقتصادي، ويسعى إلى تحقيق الإصلاح الزراعي وإقرار حقوق العمّال تحت شعار الاشتراكية. ويرى الكاتب أنّ هذه المرحلة «كانت تحقّق التطور الرأسمالي وإن في شكل جديد، لأنها تنطلق من تقديس الملكية الخاصة».
يدخل كيلة في مناقشة مستفيضة لا بالتحوّلات التي عصفت بتيارات اليسار من الناحية السياسية وتطورات المشهد السياسي السوري والعربي فحسب، بل بالتطور الايديولوجي العقائدي لهذه التيارات والمخاضات العسيرة التي مرّت بها، فيما كانت تسعى الى التوفيق بين شعاراتها ذات البعد السوفياتي وواقعها القطري والقومي والتحديات المصيرية التي مثّلت قضية فلسطين أبرز تجلياتها.
ولا يمكن هنا استبعاد الجانب الأمني الذي اتسمت به الأنظمة التوتاليتارية. فهذا الجانب الذي كان النظام السوري أحد أبرز الانظمة العربية المحترفة في استخدامه على الساحة السياسية، أسهم الى حدّ كبير من خلال لغة الترهيب، في زرع الشقاق داخل التيار اليساري. هكذا تحوّل إلى مجموعة تيارات متنافسة، منها مَن تنافس لكسب ود النظام البعثي وفق «اجتهاد» خاص، يسوّغ لمفهوم الاستمرارية والبقاء، ومنها مَن تنافس مع الآخر على خلفية الرضوخ أو عدم الرضوخ لإملاءات السلطة.
نتيجة هذا التنافس الذي أوجد تيارات عدّة تتبنى الطروحات اليسارية، برز الشقاق واضحاً بين مَن رضي أن يكون مطيّة في يد النظام لمحاربة «المد الأصولي»، خصوصاً في الثمانينيات حين شهدت مدن سورية مثل دمشق وحماة احداث عنف غير مسبوقة بين السلطة والإخوان المسلمين. فيما كان احتضان النظام لشريحة أخرى من اليسار، نتيجة للتقارب بين دمشق وموسكو خلال حقبة الاتحاد السوفياتي السابق.
ربما كانت سنة 1969 بداية الانشقاق داخل الحزب الذي اكتمل عام 1972. هنا يرى الكاتب أنّه مع هذا الانشقاق «كانت تتزامن لحظتان، الأولى تلك التي عبّرت عن السعي إلى إعادة الحزب الى ما كان قد تبلور عليه في ثلاثينيات القرن العشرين... واللحظة الثانية هي تلك التي تبلورت في رؤية تنطلق من ضرورة الديموقراطية في إطار اقتصادي رأسمالي، وضرورة التحالف في سبيل نظام ديموقراطي، وكانت تتردد أكثر في مواجهة انتصار الوحدة المصرية السورية وسلطة عبد الناصر، ثم سلطة البعث في مراحلها الأولى، حيث كان الحزب مع النظام الديموقراطي على أساس الملكيّة الخاصّة».
وفي المرحلة الاخيرة أي الخمس سنوات الأخيرة التي مرّ بها اليسار السوري، ضاع بين برنامجين، الأول يميني يدافع عن السلطة والآخر يميني أيضاً يدعو الى الليبرالية.
وهنا لا نستطيع بالطبع فصل المسار السوري عن التطورات في الساحة الدولية، ولا سيما بعد تفتّت الاتحاد السوفياتي، وما تركه هذا التفتت من انعكاسات أدّت الى شرذمة اليسار عالمياً، وتحول جزء منه الى الليبرالية. فيما اختار الجزء الآخر الدفاع عن البيئة أو مناهضة العولمة مثل أحزاب الخضر في أوروبا.
يمكن أن يمثّل «اليسار السوري في واقعه الراهن» ـــــ إلى جانب كتاب «الانقياد» للكاتب يعقوب قريو الذي يتحدث فيه عن القيادي الشيوعي السوري خالد بكداش ـــــ مادةً «دسمة» تؤرخ للحزب الشيوعي السوري الذي أصبح ظلاًّ من ظلال السلطة، لا يملك سوى الدور «الرومانسي» الذي يجسّده شبان حالمون بالتغيير، لكن في الوقت نفسه راضخون للسلطة. هذه السلطة التي تتخذ من بعض شعارات اليسار «الرنانة» عناصر وهمية تضفي على «السينوغرافيا» السياسية الأحادية النظرة، أضواء باهتة للإيهام بأنّ ثمة تعددية في إطار الوحدة.