عبد الزهرة الركابي
يطمح الباحث سيف الخياط في كتابه “العقدة والعقيدة” (مدبولي)، إلى تفكيك النهج المذهبي ورصد مخاطره السياسية، انطلاقاً من التجربة العراقية، ودور بعض الفئات الشيعية فيها. وإذا كانت المبادرة بحد ذاتها تعكس قدراً من الجرأة والجدية، فإن الكتاب تشوبه مغالطات واختزالات وتعميمات عدة تستحق النقاش

لا شك في أنّ المذهبية أو الفئوية إذا عمدت إلى ممارسة السياسة على حساب دورها الاجتماعي والديني والإرشادي، تؤدي إلى إفرازات سلبية تعطّل العملية السياسية. ولعلّ النموذج العراقي بعد الاحتلال الأميركي هو خير دليل على ذلك. وقد يكون «العقدة والعقيدة» لسيف الخياط الصادر عن «مطبعة مدبولي» (القاهرة) واحداً من الكتب التي تناولت دور العقيدة المذهبية في العراق عبر مسيرة الطائفة الشيعية، وخصوصاً المرحلة التي أعقبت الاحتلال. يتناول الكتاب بشكل موسّع موقف بعض فئات شيعة العراق من الاحتلال، ويشكّل محاولة لإثارة بعض الجوانب التي تخللت هذا الموقف.
يكتفي المؤلف باستعادة موجزة لأحداث أساسية في تاريخ العراق المعاصر، والمراحل التي أعقبت الاحتلال، لينطلق بعدها في عملية قراءة للتراث الشعبي الشيعي تارةً ولتحليل نفسي واجتماعي طوراً، على نحوٍ لم يأت بالغرض المنشود. وقد أراد من وراء ذلك القيام بعملية إسقاط لأحداث من الماضي على ما توصل إليه من توصيفات لوقائع المسيرة السياسية والاجتماعية لبعض الفئات البارزة اليوم على الساحة السياسية.
ويغفل البحث مكوّنات عدة لشيعة العراق، كما يغفل المراحل التي شكّلوا فيها القسم الأكبر من المعارضة لنظام صدام حسين. ويعتبر أنّ هؤلاء هم الآن في موقع الحكم تحت سقف الاحتلال، وأنّ إخفاقهم في الحكم امتداد لإخفاقهم في المعارضة. كما اعتبر أنّ المعارضة الشيعية التي لم تستطع تحقيق هدفها بإطاحة نظام صدام حسين إلا على يد قوات أجنبية، حصدت إخفاقين: في المعارضة وفي الحكم. وهو موضوع على أهميته، لم يوغل فيه المؤلف بالشكل المطلوب.
في مقدمة الكتاب، على أهميتها، يقع الخياط في مطبّات غير دقيقة أو مجانبة للحقيقة. فمثلاً يكتب: «وقد شكل رد الفعل الشيعي لغزاً محيّراً للكثيرين. ففي حين كان يتوقع العالم أن يكون الشيعة هم الأكثر ترحيباً بالتغيير وإن جاء على يد قوى خارجية، فوجئوا بمجموعة من الانفعالات غير المنضبطة والهوسية، بدأت بالمشاركة في أكبر عمليات سلب ونهب شهدها العراق المعاصر وإن كان تاريخه يزخر بمثيلاتها، مروراً بقتل رجل الدين التنويري المناهض لسلطة البعث السيد عبد المجيد الخوئي، ومن ثم حصار بيوت مراجع الدين، وصولاً إلى الموت المجاني في مواكب العزاء وتشكيل الميليشيات لقتال القوات التي حرّرتهم. لقد صنع الشيعة بعد سقوط النظام الذي أذاقهم صنوف العذاب بأشكاله وألوانه كل شيء، إلا أنهم لم يعبروا بطريقة مناسبة عن بهجتهم بسقوط ذلك النظام، لا حباً به أو بغضاً بالاحتلال وإنما لأنهم كانوا يحتفظون بمشاريع أخرى كانت مؤجلة، من بينها صناعة طواغيت بديلة للطاغوت المخلوع، لكن هذه المرة بتسمية شيعية، وبفكر زعموا أنّه يعود إلى ألف وأربعمئة عام».
وهنا نورد جملة من الملاحظات: أولاً، لم يكن عبد المجيد الخوئي معارضاً للنظام العراقي السابق بمعنى المعارضة، بل كان يدير مؤسسة اجتماعية في لندن هي «مؤسسة الخوئي» التي تعتمد على إرث المرجع الشيعي الأسبق (أبو القاسم الخوئي). وكان الخوئي الإبن يحظى بدعم بريطاني وغربي، حتى أنّه وصل على متن طائرة بريطانية في بداية احتلال العراق. وجاء مقتله في مرقد الإمام علي، نتيجة صراع سياسي واجتماعي بينه وبين مقتدى الصدر نجل المرجع الشيعي السابق محمد صادق الصدر. وبالتالي، فاغتياله هو نتاج صراع أبناء مراجع الشيعة السابقين على الساحة الشيعية العراقية. كما بدا جلياً أنّ الميليشيات الشيعية لم تتشكّل لمقاومة الاحتلال، بل لحسابات طائفية وتكتلية. والدليل أنّ هذه الميليشيات لم تقاوم الاحتلال أو تبادر إلى المواجهة المسلحة، وقد يأتي هروب مقتدى الصدر الأخير في هذا السياق. وهنا نشير إلى أنّ ما حدث من صدام مسلح بين القوات الأميركية وميليشيا «جيش المهدي» في المرحلة الأولى من الاحتلال، جاء بعدما تعرضت القوات الأميركية لهذه الميليشيا وحاصرتها في النجف. كما أنّ القوى والجماعات التي شكّلت هذه الميليشيات والعصابات، إنّما تشارك في العملية السياسية التي يتبناها الاحتلال، وبالتالي، فهي ليست في وارد التصادم معه. حتى أنّها تستخدم في أدبياتها تسمية «القوات المتعدّدة الجنسيات» وليس «قوات الاحتلال».
باختصار، لم يأت المؤلف بجديد في الفصل الأول الذي خصّصه لمقتل عبد المجيد الخوئي. وكان الأجدى به أن يبدأ من الفصل الثالث الذي تناول بشكل جريء الخرافات والخزعبلات التي تسود الوسط الشيعي. يستعيد سيف الخياط قصّة حدثت عام 2004 عندما هرع الناس إلى مدينة الثورة ـــــ الصدر في بغداد ليشاهدوا ظاهرة غريبة عن شجرة كرم تذرف الدم سنوياً، وتحديداً في يوم ذكرى مقتل الحسين بن علي. وقد نقل النبأ التلفزيون العراقي الحكومي، وعرض تحقيقاً مصوراً مع أصحاب الكرمة الذين أكّدوا حصول الظاهرة سنوياً. والحكاية أنها كرمة عنب اعتاد صاحبها أن يقوم سنوياً بنحر خروف عندها، ليطبخ الأكلة المعروفة بالهريسة التي يقدمها الشيعة في ذكرى مقتل الحسين. وعندما ينتهي، يغسل أرضية الباحة بالماء ليخفف من كثافة الدم ويساعد على تسرّبه في سويقات الشجرة المجوّفة. وفي اليوم التالي، تنضح عبر نتوءات الشجرة، فتبدو كما لو أنها كانت تبكي دماً!
على أي حال، يمثّل الكتاب محاولة جريئة من كاتب أراد الخوض في ميثولوجيا مذهبية بطابعها السياسي وبجوانبها الأزلية والمرحلية، وهي جوانب تحتاج إلى جهد كبير وإلمام واسع في خلفية تلك الميثولوجيا. صحيح أن المؤلف لم يتمكن من هذا الإلمام، بأبعاده المختلفة والمتنوعة، لكنه بلا شك بذل جهداً يشار له بالتقدير.