لمّا ذابت شخصيتا عاصي ومنصور في شخصيّة فنية معنوية واحدة اسمها الأخوان رحباني، ولما كان يصعب التعرّف ببصمات كل منهما على إنتاجهما المسرحي الغزير، وجد الجمهور نفسه أمام مرحلة مفصلية عندما توفي عاصي عام 1986، إذ كان عليه مراقبة التحول الذي يمكن أن يحدثه رحيله.احتمال التحول كان كبيراً. وهذا ما حصل بالفعل منذ «صيف 840» حتى «زنوبيا» مروراً بكل الأعمال المسرحية التي قدّمها منصور منفرداً كالـ«المتنبي» و«آخر أيام سقراط» و«النبي» وغيرها.
يلاحظ مَن كان يتابع المسرح الرحباني قبل وفاة عاصي وراقب الخط العريض الذي رسمه منصور بعده، أنّ هناك فارقاً جوهرياً في النص المسرحي بين المرحلتين، انعكس بدوره على النمط الموسيقي العام.
إن الحكاية ذات الحبكة البسيطة أيام الأخوين لم تكن تحتاج إلى القالب الضخم الذي يمكنه أن يحتويها على صعيد الديكور واللوحات والموسيقى. أما بعد عاصي، فقد انسحبت الهالة الاستعراضية للحدث التاريخي، وخاصة الشخصية التاريخية، على القالب الموسيقي العام الذي سيطر على المساحة الأكبر من الموسيقى التصويرية التي رافقت نص منصور. هكذا، أتت الموسيقى على شكل القصيدة السيمفونية التي ولدت واشتهرت في أوروبا أواسط القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، أي الموسيقى التي تصف مشهداً من الطبيعة أو شخصية تاريخية أو حدثاً هزّ العالم. وكما في تلك الفترة، كذلك مع منصور، لم يكن لهذه الموسيقى إلا أن تكون أوركسترالية ضخمة بحجم ما تصفه.
للموسيقى الأوركسترالية نكهتها بلا شك. وللجملة الموسيقية البسيطة التي تتحاور فيها آلات قليلة أو تنفرد في أدائها آلة واحدة نكهتها أيضاً. لكن أَلم يعترف أحد كبار موسيقيي مرحلة ما بعد الرومانطيقية المؤلف النمساوي غوستاف ماهلر (1911 ــــــ 1860) بأنّ أصعب أشكال التأليف الموسيقي هو التأليف لرباعي وتريات؟ هو الذي اشتهر بتسع سيمفونيات (مطلع عاشرة) يصل عدد الموسيقيين في الأوركسترا الى أكثر من ألف، اكتفى بكتابة رباعي وتريات واحد، لا يشكّل موضع اهتمام لدى العازفين والمستمعين على حد سواء!