بشير صفير
  • عازف البيانو الذي عشق باخ وتخلّى عن النساء


  • بعد خمسة وعشرين عاماً على موته، ما زال الموسيقي الكندي الذي صدم معاصريه، يتصدّر سوق الاسطوانات الكلاسيكية
    في العالم. أي سرّ يخبّئه بعناية ذلك الشاب النحيل، والهش، الغارق في معطفه وقبعته وشاله وقفازاته؟


    منذ مطلع القرن العشرين حتى اليوم، لا تزال القارة الأوروبية تنجب أكبر عدد من عازفي البيانو في مجال الموسيقى الكلاسيكية، وخصوصاً في روسيا والنمسا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا. وقلّما نرى عازفاً استثنائياً خارج هذه الرقعة من الأرض، لكن العازف الكندي غلن غولد (1932 ــــ 1982) كسر قاعدة الاحتكار الأوروبي، وأعاد وحده التوازن لمصلحة أميركا الشماليّة! إنّه من أهم الموسيقيين والمحللين، وأحد الذين غيّروا نظرة العالم إلى البيانو وإلى كبار المؤلفين الذين كتبوا لتلك الآلة، وأهم الأعمال التي وضعت لها.
    بعد ربع قرن على رحيله، ما زالت أعمال غولد بين الأكثر مبيعاً في العالم... وكيف يمكن نسيانه أصلاً؟ إن مفهوم العلاقة بين الوقت والذاكرة ينقلب تماماً في معادلته الفنيّة. ولد غلن غولد في تورونتو (كندا)، وبدأ دراسة العزف على البيانو مع والدته. منذ صغره أظهر ميلاً إلى العزلة، وإعجاباً خاصاً بالمؤلف الألماني الكبير من عصر الباروك جان سيبستيان باخ، وهذا الحب لازمه حتى وفاته. لم يعرف غولد حباً أكبر من أعمال باخ، بما في ذلك بين النساء. فهو لم يتزوج، ولم يقم أي علاقة غرامية بحسب ما كُتِب عنه. كان شاباً نحيلاً هزيل البنية، هشاً وغارقاً على الدوام في معطفه وقبعته وشاله وقفازاته، ويفضّل التواصل مع الناس عبر الهاتف. وكان لا يزعجه أن يمضي ساعة أو ساعتين في حديث من وراء السماعة. وتروي عنه إحدى قريباته أنه قرأ لها يوماً كتاباً كاملاً على التلفون، وغنّى لها مرةً عملاً أوبرالياً من الافتتاحية حتى الختام!
    دخل غولد إلى استوديوهات «شركة كولومبيا» عام 1955، ليحقق أول تسجيلاته. كانت مقاربة موسيقية مميزة لأحد أهم أعمال باخ لآلة البيانو وأحبّها إلى قلب غولد: تنويعات غولدبرغ The Goldberg Variations. التسجيل دخل التاريخ وكذلك صاحبه. هكذا توالت تسجيلات غولد التي خصّ بها مؤلفه المفضّل ومؤلفين آخرين، وكثرت عروضات تقديم الحفلات فجال العازف الشاب في صالات الحفلات العالمية بين عامي 1951 و1964، مقدّماً أكثر من 180 حفلة بين عزف منفرد أو مع أوركسترا أو فرقة حجرة (عازفيْن إلى خمسة). وذات يوم من عام 1964، قرر غولد وقد بلغ الثانية والثلاثين، أن يعتزل الحفلات الحية. قرارٌ لن يتراجع عنه في الفترة الباقية من عمره، مكتفياً بالتمرين والتسجيل. ولم تفلح محاولات إقناعه بالتراجع عن قراره أو الخروج عنه ولو لمرة واحدة. إذ رفض قبل وفاته بقليل مبلغ مئة ألف دولار أميركي مقابل تقديم حفلة واحدة في صالة كارنيغي النيويوركية الشهيرة.
    تلك السنوات أمضاها غولد في استوديوهات كولومبيا، مهتماً بالتسجيل والتقطيع والإشراف على أدق التفاصيل، وكان مهووساً بكل ما يتعلّق بتقنيات الصوت وتكنولوجيا التسجيل. وأعدّ برامج موسيقية تحليلية، وقدّمها عبر الأثير من خلال الراديو. وإذا كان لا بد من سمة مشتركة بين التسجيلات الكثيرة التي تركها العازف الكندي، فهي الدقة في الدرجة الأولى. وتتميّز تلك التسجيلات بعدم التزام العمل الموسيقي كما كُتب في الأصل. فكل عبقريّة غولد «المؤدّي»، تكمن في رهانه على هامش تأويل واسع. وهذه الحرية في المقاربة الفنية تظهر شخصية العازف وأحاسيسه الناتجة من التفاعل مع كل نوتة موسيقية. وذلك يفسّر الصدمة التي تلقاها بعض معاصريه من المتزمّتين المقيَّدين بالأصول الأكاديمية، وبالاحترام الأعمى لإرادة المؤلف. وفي هذا السياق، تميّز أسلوب غولد في العزف بالتلاعب بالإيقاع، إذ كان يسرّع ما هو بطيء أو العكس، تبعاً لما تمليه نظرته الشاملة إلى العمل الموسيقي، لا بفعل «المزاجية»... كما اتهمه بعضهم.
    طاولت تسجيلات غولد كل أعمال باخ (تقريباً)، تلك التي كتبها لآلة البيانو منفردة، أو مع أوركسترا (في الواقع كتب باخ جلّ تلك الأعمال لآلة الكلافسان الشبيهة بالبيانو، والتي كانت رائجة الاستعمال في تلك الفترة، علماً بأن المؤلف الألماني، خلافاً لما هو شائع، عَرَف البيانو بشكله البدائي قبل أن يتطور ويصبح كما نعرفه اليوم). وأدّى ثلثي سونيتات البيانو الـ32، وكونشرتوهات البيانو والأوركسترا الخمسة لبيتهوفن (وأعمال أخرى)، وسونيتات البيانو وبعض أعمال موزار، وست سونيتات فقط للبيانو للمؤلف النمساوي فرانز جوزيف هايدن.
    ويضيق المجال عن ذكر كل تسجيلاته التي تشمل أعمال مؤلفين من كل العصور: هاندل من عصر الباروك، وبرامز وشوبان ومندلسون وشومان وبيزيه من العصر الرومنطيقي، وريتشارد شتراوس وألكسندر سكريابين (مطلع القرن العشرين)، وبول هنديميت من العصر الحديث وغيرهم... وأَوْلى غولد اهتماماً خاصاً بتيار اللامقامية، أو ما يُعرف بمدرسة فيينا الثانية، (المدرسة الأولى التي تنتمي زمنياً إلى القرن الثامن عشر، أي العصر الكلاسيكي الذي ظهر مطلع القرن). هكذا سجل عاشق باخ أعمالاً لمؤسس هذا التيار أرنولد شونبرغ وتلميذه ألبن برغ.
    وقبل أشهر من وفاته، عاد غولد إلى باخ حبّه الأول، وتحديداً إلى العمل الذي بدأ به مسيرته الفنية (في مجال التسجيل). وكان أن ختم تلك المسيرة إذاً، بتسجيل ثالث لتنويعات غولدبرغ. وقد أتت مقاربته الجديدة مختلفة تماماً. فالإيقاع السريع الذي اعتمده في التسجيل الأول (1955)، يفضح حماسة الشاب العشريني لدخول عالم الموسيقى. أما في تسجيل 1981، فقد أتى الإيقاع بطيئاً. كأننا بغلن غولد يحاول هذه المرّة إطالة مدة العمل، ومعه الحياة، قدر المستطاع... أم لعله رغب في إطالة لحظة الوداع؟