بيار أبي صعب
ربيــع مروّة يستحضــر كابوس الحرب الأهليــة

«كم تمنّت نانسي لو أن كلّ ما حدث ليس سوى كذبة نيسان» عنوان مسرحيّة غريبة ومزعجة، من أجمل ما شهده المسرح اللبناني منذ سنوات. جرأة ربيع مروّة لا تقتصر على إيقاظ أشباح الماضي القريب، بل تتجلّى أساساً في خياراته الجمالية ونزعاته الانقلابية على المسرح السائد

ارتفع سيف ديموقليس عن رأس ربيع مروّة ورؤوسنا. تراجعت الرقابة اللبنانية، لحسن الحظ، وبعد تدخّل وزير الثقافة (راجع الكادر)، عن قرار منع مسرحية «نانسي» التي يشاهد الجمهور عرضها اللبناني الأوّل هذا المساء في بيروت. لكن هذه النهاية السعيدة لا تحلّ كل المشاكل... كما أن الضجّة التي أثيرت حول المسرحيّة قد لا تخدمها بالضرورة! الذين سيتهافتون الليلة (ثم طوال شهر كانون الأوّل/ ديسمبر من العام الحالي) على المسرح، لمشاهدة «المسرحيّة الممنوعة»، سيخيب ظنّهم بلا شك: ليس هناك أي تشويق، أو أكشن، أو أي نزعة فضائحيّة، في مسرحيّة ربيع مروّة الجديدة التي انطلقت من طوكيو، الربيع الماضي، وتستقبلها باريس قريباً في «مهرجان الخريف». بل قد نصدم كثيرين إذا قلنا: ليس فيها «مسرح» أساساً، بالمعنى السائد للكلمة طبعاً، بالمعنى الذي تفهمه الثقافة الرسميّة والمكرسة، في لبنان والعالم العربي، بوعيها الفكري والجمالي، ومراجعها الذوقيّة، وأدواتها النقدية.
مسرحيّة ربيع مروّة الجديدة «كم تمنّت نانسي لو أن كلّ ما حدث ليس سوى كذبة نيسان» (إنتاج «أشكال ألوان»)، قد تكون أنضج تجاربه حتّى اليوم، وأصعبها أيضاً. فهو يعمل منذ عقد كامل، منذ «أدخل سيدي، إننا ننتظرك في الخارج» (مع طوني شكر ـــ ١٩٩٨)، على لغة مشهديّة مغايرة، تقلب قواعد العرض، وتتلاعب بعناصره، وتخلق له قواعد المنظور مختلفة. خرج ربيع مروّة على المسرح، مشيّداً العرض عند حدوده القصوى، في موقع قريب من الفنّ المعاصر بتجهيزاته وإنشاءاته وأبعاده البصريّة. وبعد «بيوخرافيا» (مع لينا صانع ـــ ٢٠٠٢) و«البحث عن الموظف المفقود» (٢٠٠٣)... ها هو يصل بالراديكاليّة إلى ذروتها، في مسرحيّة يقتضي موضوعها أكبر قدر ممكن من «الخروج على القاعدة» (كتبها مع فادي توفيق الذي تولّى الجانب التوثيقي، مستنداً إلى عناصر من بحث أكاديمي لزينة معاصري حول تاريخ الحرب اللبنانية من خلال الملصق السياسي والحزبي، سينشر بالإنكليزية ثم بالعربيّة، ويتحوّل إلى معرض في الربيع المقبل).
مثل أبرز فناني جيله في لبنان، جيل الحرب الأهليّة وما بعدها (أكرم الزعتري، وليد صادق، وليد رعد، لميا جريج، علي شرّي...)، يقدّم ربيع مروّة عملاً أركيولوجياً. يبحث في طبقات الذاكرة الجماعيّة عن المسكوت عنه أو المنسي أو المغيّب، من جراح الحرب الأهليّة. لكنّه يفعل على طريقته الخاصة. يُخرِج شهداء الحرب الأهليّة من ملصقاتهم، يجعلهم يجلسون أمامنا على الخشبة. الأول: اسمي حاتم إمام، سكان بيروت ـــ طريق الجديدة، الأصل من طرابلس. الثاني: أنا ربيع مروة، سكان جبيل، الأصل من الحدث. الثالث: زياد عنتر من الجنوب، كفركلا، قضاء مرجعيون. الرابعة: لينا صانع، أنا من المزرعة...
«الممثلون» الأربعة محشورون في كنبة ضيّقة، في مواجهة الجمهور، لا ينظر أحدهم إلى الآخر. دائماً في مواجهة الصالة... مونولوغات تتقاطع عند كلمة، أو واقعة حربيّة، أو لحظة سياسيّة. خلف كل منهم شاشة على قياس ملصق ستعبر عليها مجموعة ملصقات تخلّد استشهاداته المتكررة، وأحياناً تتحرّك الصورة في الملصق فتنبت لحاتم لحية حين ينتقل من «المرابطون» إلى الجهاد في أفغانستان مع جماعة عبد الله عزّام، أو يُغرق الدم ملصق زياد الذي انتقل من الحزب الشيوعي إلى «أمل»، أو تضاء صورة أزنافور وداليدا حين يصبح ربيع مرافقاً خاصاً لداني شمعون، ما يعطيه فرصة للقاء المشاهير...
الشغل الغرافيكي اللافت الذي يعطي للعرض قوّته، يحمل توقيع سمر معكرون (مع غسان حلواني). الميليشيوي يموت، ثم يقوم وتتواصل اللعبة، وهكذا دواليك... كما في ألعاب الفيديو اليابانيّة. الجثث تستعيد ذاكرتها. تأخذنا من قصة إلى أخرى، من واقعة حربيّة إلى أخرى في تاريخ حافل بالمعارك والمحطات الدامية. ينتقل الشهداء أيضاً من خندق إلى آخر في لعبة موت مسلية ولذيذة، بلا قرار. لعبة تبدأ في نيسان (ابريل) ١٩٧٥... وتنتهي (موقتاً؟) عند برج المرّ، يوم مشروع الفتنة المحبط في 25 كانون الثاني (يناير) 2007.
يكرّ أمامنا شريط الحرب بمحطاته المختلفة: حرب الفنادق، الاجتياح الأول، مجزرة إهدن، كامب دايفيد، توحيد البندقيّة المسيحيّة، اجتياح ٨٢ وحصار بيـــــــروت، اغـــــــــــتيال بشير الجميّل ومجازر صبرا وشاتيلا، خروج المقاومـــة الفـــــلسطينيّــــــــة، اتفاق ١٧ أيّار، حرب الجبل، انتفاضـــــــــة ٦ شباط ٨٤، خروج عون إلى باريس، اتفـــــــــاق الطائف، تحرير الجنوب... وصولاً إلى اغتيال رفــــــــــيق الحريري وحرب تمّــــــــــــوز الأخيرة. أخيــــــــراً تلتقي الجثث الأربع عند برج المرّ بعد مشاهـــــدة أحداث المــــــــــــدينة الرياضيّة الأخيرة على التلفزيون، يوم 25 كانون الثـــــــاني 2007. الباقي نقرأه على الشاشة، فــــــــي تقرير الجيش الذي وجد «أربع جــــــــثث... وبجانبها خمـــــــسة رشاشات حربية». و«تبيّن أنّ الأسلحة التي صودرت جميعها مرخصة. ولما كانت الارتكابات التي اعترفت بها الجثث مشمولة جميعها بقانون العفو العام، أخلي سبيل الموقوفين الأربعة بسندات إقامة». ينسحب شهداء العرض المسرحي، ومعهم بورتريهاتهــــــــــــم على الشاشة من الأمام ومن الخلف، وتعبر على الشاشات في صمت مطبق لدقائق طويلة، صور ملصقات حقيقية، لشهداء حقيقيين من الحرب الأهليّة.
خشيت دائرة الرقابة من أن تساهم مسرحيّة «نانسي» في خلق أجواء الانقسام الأهلي. في الحقيقة يمكننا القول إن القيّمين على هذا الجهاز، لم يروا من النص إلا جزءه الخارجي. وهم معذورون طبعاً، فالنقد المسرحي ليس بالضرورة من اختصاصات الرقيب. نعم العرض مزعج ومؤلم، إذ يغور في الجراح التي لم تلتئم لأن ملوك الطوائف وشيوخ القبائل، لا يريدون لها أن تلتئم! هذه هي وظيفة المبدع ربّما، والكاتب والمثقف. أن يمدّ للجماعة مرآة تضخّم عوراتها. إنّها الصدمة التي تولّد الوعي... وتساعد على الشفاء ـــــ التطهّر يقال في المسرح الإغريقي ـــــ من تلك اللعنة القديمة. انتبهوا إذاً: الشهداء يعودون هذا المساء (على طريقة الطاهر وطّار والزياني شريف عيّاد إذ استحضرا، أيام حكم الحزب الواحد في الجزائر، شهداء حرب التحرير لمحاسبة الذين تسلّموا الدفّة بعد الاستقلال). لا تستغربوا إذا خرجتم من «مسرح المدينة» وقمصانكم تعتصر عرقاً. وحدهم أمثال ربيع مروّة بوسعهم أن ينتصروا على الحرب! “كم تمنّت نانسي لو أن كلّ ما حدث ليس سوى كذبة نيسان”...

عرضان هذا المساء

السابعة والنصف ثم العاشرة في مسرح المدينة ـــــ الحمرا ـــــ بناية السارولا ــــ بيروت، هاتف «أشكال ألوان»: 01،360251
www.ashkalalwan.org