strong> نجوان درويش
  • سيمــون شاهيــن، أو الموســيقى العربيــة في مهــبّ العولمــة

  • عند مفترق الطرق يقف، جامعاً العود والكمان الكلاسيكي، التقاليد العربية والتجارب الغربية المعاصرة. الفنان الفلسطيني سيمون شاهين الذي زار رام الله أخيراً، يتنقّل بخفّة بين النغميّة الشرقية والجاز، بين «سيمفوني اوركسترا» التي ينتمي إليها في ديترويت، وفرقة «قنطرة» المتعددة المشارب التي أسسها في نيويورك... خيط رفيع يربط هذه النقائض، اسمه موسيقى العالم أو الـ World Music

    عندما استمع ادوارد سعيد لسيمون شاهين أول مرة، اقترب منه عند نهاية الحفلة، وقال: «لم أكن أعرف أنّ في إمكان الموسيقى العربية أن تكون جميلة ومركّبة إلى هذه الدرجة». بالطبع، لم يكن صاحب الاستشراق يملك إلماماً كبيراً بالموسيقى العربية هو المعروف بشغفه بالأوبرا الألمانية. لكنّ جملة سعيد لخّصت بطريقة عرضية موسيقى سيمون شاهين وعقدين من العمل التأسيسي ـــــ انطلاقاً من الساحة الأميركية ـــــ لتغيير الصورة النمطية «الهوليوودية» للموسيقى العربية: «تقترن الموسيقى العربية في النظرة الشائعة، بهزّ البطن والكباريهات. قبل سنوات قليلة، لم تكن هناك جهود عربية حقيقية لتعريف الجمهور الأميركي بمفهوم الفن العربي». هذه المهمة تنكّب لها شاهين بجدارة، فباتت إحدى من «الرسائل» التي يحملها هذا الفنان المتعّدد الذي يتجادل شرقه مع غربه، باعتداد واضح... في مهب كونية جارفة.
    غالباً ما يزور سيمون شاهين فلسطين. آخر تلك الزيارات، كانت إلى معهد «ادوارد سعيد الوطني للموسيقى» في رام الله، حيث شارك في ورشة عمل تهدف إلى تدريب الموسيقيين الشباب وطلاب الموسيقى. لا تزال علاقة شاهين وطيدة بتلك الأرض على رغم أنّه غادرها إلى نيويورك منذ عام 1980 حيث بدأ تجربة غنية ومتنوعة في مدينة المنفيّين النموذجية. بل إنّ علاقة جميلة أنشأها شاهين مع الحياة الموسيقية الجديدة في فلسطين، عبر التزامه بتطوير الموسيقى فيها، والمشاركة في ورشات تدريبية للعازفين الشباب. كذلك دعا مجموعة منهم إلى مهرجان الموسيقى العربية الذي يقيمه في نيويورك.
    قائمة تسجيلاته وأسطواناته طويلة، من «موسيقى محمد عبد الوهاب» (1990)، و«تراث» (1992)... إلى «تراث» (2002)، مروراً بـ «سلطنة» (1997) التي كانت ثمرة تعاون مع العازف الهندي فيشوا موهان بهات، حيث مزج شاهين الراكات الهندية بالمقامات العربية. إلا أنّ المفترق الحاسم في مسيرته كان ألبوم «الشعلة الزرقاء» Blue Flame الذي أصدره عام 2001 مع فرقته «قنطرة». في هذا الألبوم، مزج شاهين أنماطاً موسيقية مختلفة: الموسيقى العربية، الجاز الأميركي والموسيقى الرعوية الغربية والكلاسيكية، ورشّح الألبوم لـ 11 جائزة غرامي، ووصف النقاد أداء الفرقة بـ «المذهل».
    سيمون شاهين الذي ولد في قرية ترشيحا في الجليل الفلسطيني عام 1955، تعلّم العود وهو في الثالثة، ثم الكمان. وعندما بلغ السادسة، انتقلت عائلته إلى حيفا حيث بقي إلى أن هاجر شاباً إلى نيويورك. هناك راح يعيد امتلاك الميراث الموسيقي العربي، فيما كان يختبر تيارات موسيقة متنوّعة... إلى أن أصبح أحد أبرز الموسيقيين العرب والمؤدّين والمؤلفين بين مجايليه. «لقد نمت ليلةً في حيفا، وفي اليوم التالي وجدتُني أصحو في نيويورك. استيقظت وأكملت حياتي». بهذه البساطة يصف شاهين هجرته إلى أميركا قبل ربع قرن.
    عن تجربة الاغتراب يقول: «نيويورك مدينة شرسة، الزمن فيها سريع والحركة أيضاً. الأشياء التي تعرضها عليك نيويورك غير محدودة: كما لو أنّك تدخل متجر أقمصة بحجم مدينة القدس، وعليك أن تنتقي قميصاً بين مليون قميص». ويضيف: «تربّيت على الموسيقى التقليدية العربية والجاز الأميركي والموسيقى الكلاسيكية. أنا عازف موسيقى كلاسيكية منذ الخامسة. وحين أتيت إلى نيويورك، كنت دائماً أقول للأميركيين: أنتم تتكلّمون لغةً واحدةً ونحن نتكلّم خمس لغات. أنتم لا تعرفون العالم، بينما نحن تربّينا على معرفة كل شيء عن العالم. ليس لديكم انفتاح على فنون العالم، بينما نحن تربّينا في مناخ انفتاح رهيب على الموسيقى العالمية والفن العالمي».
    إلا أنّ نيويورك وفّرت لسيمون شاهين بُعداً آخر، فهي مدينة عالمية تستقطب جهات مختلفة من الموسيقيين والمفكرين والكتّاب: «تؤلف نيويورك ملتقى للموسيقيين العالميين، وقد وفرت لي فرصة التعامل معهم، سواء من خلال تسجيلات أو عروض، أو في تجارب موسيقية. وتلك التجربة تضيف إلى دائرة معرفتي، وتكمّل تربيتي الموسيقية التي بدأتها صغيراً مع والدي مع تعرّفي إلى الحضارات المختلفة، من الجاز الأميركي والموسيقى الهندية... إلى الموسيقى الإيرانية. وعندما وصلتُ إلى نيويورك، أخذت تلك الدائرة تكتمل... تعاملي مع فضاء الجديد دفعني الى الكتابة في هذا الاتجاه. التأليف القائم على المزج بين الموسيقى العربية وبعض الروافد الحضاريّة الأخرى».
    أواخر عام 1994، أسّس شاهين فرقة «قنطرة»، مع بسّام سابا (ناي)، فرنسوا موتان (إيقاع)، آدم روجرز (غيتار)، بيلي دروس (ساكسوفون)، جيمي حدّاد (إيقاع)، ستيف شيهان (إيقاع) لورنسو مارتينيز (ايقاع) ونجيب شاهين (عود). جاءت الفرقة ثمرة احتكاكه بعازفين من مختلف الملل الموسيقية. هكذا ضمّت مجموعة عازفين من خلفيات موسيقية مختلفة، «يمكنهم أن يتعاونوا معي في هذا الخلط الموسيقي العضوي الذي أريد الخروج به. باختصار هذه هي الهوية التي ابحث عنها: موسيقيون لديهم إلمام بالموسيقى التي تخصصوا فيها، خصوصاً في الجاز الأميركي... وفي الوقت عينه لديهم إلمام بالاتجاهات العالمية المختلفة. والإلمام هنا يعني انفتاحاً ذهنياً وفكرياً وفنياً لهضم أي نوع موسيقى والتفاعل معه»... ويضيف شاهين: «لم تواجهني مشكلة في تقريبهم إلى الموسيقى العربية بإيقاعاتها ومقاماتها، أو الهندية بإيقاعاتها ومقاماتها الخاصة. هكذا، عملنا معاً مدة طويلة في عروض موسيقية في أميركا وأوروبا والشرق الأدنى. قمنا بتسجيل «الشعلة الزرقاء» وانتشرت عروضنا على نطاق واسع. صرنا نعرض بكثافة في أهم مهرجانات الموسيقى في العالم مثل مهرجان «نيو جاز فستيفال» في أميركا».
    لكن ماذا عن تلاشي الحدود بين الأنواع الموسيقية؟ يجيب شاهين: «لا أعتقد ذلك. أنا أرى أن المزج هو ولادة نوع جديد من أسلوب التلحين الموسيقي، ولا يعني تلاشي الحدود. المزج هو ولادة نوع جديد من الموسيقى. ليس لدينا هنا عملية ذوبان بل إحياء في تعامل الآلات والأفكار اللحنية والأبعاد الموسيقية مع بعضها... إن الآلات الموسيقية هي أصوات فلماذا الحدود بينها؟».