حسين بن حمزة
  • شهادات محمد علي شمس الدين وشوقي بزيع وجودت فخر الدين

  • تتعايش القصيدة بصعوبة مع صـخـب الحروب... لكنها الوحيدة القادرة على اختزان الألم والذهول ومشاعر الغضب، كي تحملها الى الأزمنة المقبلة. والشاعر ليس صوت القبيلة، إنّه ضمير الجماعة ووجع المرحلة. كيف اجتاز امتحان الحرب الأخيرة؟

    يهرب الشعر عادة من المواضيع والأحداث المباشرة. الشعراء يزعمون أنّهم لن ينجحوا في إنجاز قصائد جيدة إذا كتبوها تحت الضغط المباشر. قد يكتب الشاعر مقالة أو يقول رأياً، لكنّه يتحاشى أن يكون موقفه معلناً في قصيدة. كأن «الموقف» ضد الشعر، أو لنقل كأن الوضوح والمباشرة والدقة المصاحبة لأي موقف تتعارض مع الشعر.
    الرأي السائد يقول إنّ الكتابة المباشرة تُخفض منسوب الشعرية في القصيدة. هناك مواجهة بين حساسية الشاعر كمخلص لفنّه ونبرته ومجاله اللغوي، وبين كونه إنساناً يُفترض أن يكون شاهداً على واقعه. الحدث، بحسب هذا الرأي، يخسِّر القصيدة جزءاً من جودتها. الكتابة الفورية المواكبة مباشرةً للحدث تتضمن تضحية بشروط الكتابة ذاتها. ثمة ضرورة أن تمر فترة على الحدث كي يعاين الشعراء حجمه وآثاره. إنهم في حاجة إلى مسافة تقي قصائدهم من ضغط الحدث. الشعراء يميلون إلى التأمل. والشعر يتجنب المواجهة المباشرة والساخنة مع الموضوع. على الحدث أن يبرد ثم يأتي دور
    الكتابةثمة رأي آخر يتهم الشعراء بالفردية والابتعاد عن هموم الجماهير والشعوب. أصحاب هذا الرأي يرون أن لا شيء يعلو فوق صوت المعركة. على الأقلام، بهذا المعنى، أن تتحول إلى بنادق والكلمات إلى طلقات وقذائف. يدعو هؤلاء الشاعر إلى الخروج من قوقعته وعزلته ليشارك الجموع في اللحظات المصيرية الكبرى. لعل هذا ما دفع الشاعر السوري ممدوح عدوان إبان الانتفاضة الأولى إلى كتابة مقال شهير حمل عنواناً استفزازياً: «أيها الشعراء اكتبوا شعراً رديئاً»، لافتاً إلى أن الوقت حان لينضم الشعراء إلى المعركة.
    لكن، هل الشعر المواكب للحروب والأحداث والقـــــضـــــــايا الكبرى رديء بالضـرورة؟ وهل يُضحّي الشاعر بجزء من فــــــــــــنـــــه ومخيلتــــــــــه حين يواكب هذا النوع مـــــــــن المواضيع بشكل مباشر وفوري؟
    يصعب استبعاد مثل هذه الأسئلة حين نستعيد الشعر الذي كُتب إبان حرب تموز وبعدها. محمد علي شمس الدين، الذي كتب ثلاث قصائد من وحي الحرب، يرى «أن العلاقة بين القصيدة والواقع والأحداث التاريخية علاقة مركبة. وبمقدار ما يكون الحدث ضخماً، كالحروب مثلاً، فإن التحدي يصبح أكبر. لكن سيان، لو تحدث الشاعر عن دخان السيجارة أو عن حرب تموز، الأساس هو النص الشعري وخصوصيته وجودته». ويضيف شمس الدين: «ثمة خطر على الكتابة حين تستجيب بشكل فوري للواقع. هناك كتابات تبقى أسيرة لما يمليه الحدث، وإذا وضعنا مسافة بينهما، يصبح الحدث أعلى وأبلغ منها».
    لعل شمس الدين صوّر جوهر هذه المفارقـة في قصائـــده، حين أكد أن الشاعر لا يملك سوى الكلمات، فكتب: «إنها الحربُ/ ما حيلتي؟/ ليس في قدرتي أي شيء لأمنعها/ ولستُ قوياً كما قد يُخيل لي/ كي أضيف إلى نارها جمرة واحدة/ أنا الكـلمات.. الـ.. كـ.. لـ.. مـ.. ا.. ت».
    الحيرة نفسها جعلت شوقي بزيع يقول: «ما الذي تستطيع الكتابة أن تفعله/ عندما تحت هذي السماء التي صفّحت نفسها بالخناجر/ يمتحن الوحش فينا مخالبه/ وتُمتحن الروح في بحثها اللانهائي/ عما يُحيل الرماد المصفّى/ صعوداً عقيماً إلى الله/ أو ما يعيد السؤال إلى نفسه/ حين تقترع الطائرات/ على الجثة المقبلة».
    في الحالتين نجد سؤال الكتابة وهي تُختبر في مواجهة الحدث الكبير. ثمة اعتراف بعجز «الكلمات» وقلة حيلتها أمام الأهوال التي تصنعها الحروب. في أوقات كهذه، يصبح الشعر المحض ترفاً، ولا يجد التأمل واستثمار المهارات ترحيباً كافياً في القصيدة.
    شوقي بزيع الذي سبّبت له الحرب ألماً شخصياً باستشهاد أفراد من عائلته، إضافة إلى الألم العام، يقول: «أعتقد أن أي كتابة لا بدّ أن تتعلق بمناسبة ما، منذ سقوط الإنسان من الجنة حتى سقوط البيوت على رؤوسنا في الحروب. كما أن الموضوع ليس مهماً ولا المناسبة، المهم هو كيف نتعاطى مع المناسبة، وكيف نخرجها من راهنيتها ومحدوديتها لتصبح سؤالاً إنسانياً ذا ترددات واسعة». وبالنسبة لاستجابة الشعر الفورية للحدث، يقول بزيع: «إذا كان الوقوع تحت سطوة الانفعال سيحرم الشعر من بعده المعرفي والوجودي، فإن هذا قد يصحّ على بعض الشعراء ولا يصح على آخرين. أعتقد أن الشاعر الحقيقي بإمكانه أن يكتب نصاً مميزاً حتى في استجابته الفورية للحدث، لأن القصيدة ستكون نتاج الممارسات والابتكارات التي راكمها الشاعر في مخيلته وليس نتاج الحدث فقط».
    بهذا المعنى، لا بدّ أن يبتكر الشعراء ما يعينهم على خلق مسافة تحمي كتاباتهم من فخاخ المباشرة، وأن يأخذوا الحرب مواربةًً. هذا ما نلمسه في قصيدة «شظايا» لجودت فخر الدين، حين يصف مشهد الدمار من زاوية منحرفة: «إلى من تحدث ذاك الضباب/ ضباب الوهاد التي تتنفس فجراً/ إلى من تحدث حين أتى/ وتبيّن وجه القرى غائراً في حطام البيوت/ تُرى، هل تغلغل بين الحطام/ ترى، هل تناهى إليه أنين البيوت التي انقبضت كالأجنّة».
    يتفق جودت فخر الدين مع بزيع وشمس الدين حول استجابة الشعر للحدث، ويرى «أن الشاعر يستطيع أن يكتب قصيدة جيدة حتى لو كانت مواكبة لحدث كبير كالحرب. لا معادلة تنطبق على جميع الشعراء. المعيار الأول والأخير هو جودة النص الشعري».
    لكن هل الأحداث الكبرى تجبر الشاعر على التضحية بجزء من طموحه الشعري؟ وهل يمكن تقبّل الشعر الرديء بحجة الموقف السياسي؟ ولماذا تستسيغ «الجماهير» الرداءة ما دامت منجزة حول قضايا إنسانية عادلة ونبيلة؟ بالنسبة لبزيع: «لا يمكن أي قضية «كبرى» مهما بلغت عدالتها أن تبرر «صغر» التعبير عنها. الشعر في هذه الحالة يُسيء مرتين، مرة إلى القضية ومرة إلى الشعر». بدوره، يؤكد فخر الدين: «أن الرغبة في مواكبة الحدث ليست مبرراً لكتابة نصوص رديئة وسطحية. ولذلك أنا لست مع تصنيفات غير شعرية تصنف البعض شعراء حرب، وآخرين شعراء مقاومة ...». أما شمس الدين فيرى أن الشاعر ليست لديه مشكلة في الكتابة عن الأحداث الكبرى، ويعزو السبب إلى «تصور الناس أن الشاعر أشبه ببوق أو صدى فيما الشاعر صوت، ومشكلته ليست فقط مع الأحداث الكبرى بل مع شروق الشمس والزهرة والقاتل والقتيل...».
    إذاً، المطلوب من الشاعر أن يزاوج بين إخلاصه لممارسته الشعرية وبين شهادته الذاتية على ما يجري. لعل امتحان موهبة الشاعر موجود هنا. عليه أن ينجح في إمرار الشعر إلى قصيدته، وأن يكتب الحرب مباشرةً، في آن واحد.




    في الذكرى الأولى لحرب تموز، ينظّم «تيار المجتمع المدني» معرضاً فوتوغرافياً للمصور أسعد أحمد في قصر الأونيسكو في 16 و 17 الشهر الجاري، تتخلله لقاءات مع جمعيات شاركت في أعمال الإغاثة إبان العدوان. للاستعلام 01،793180. ** كذلك تقيم جمعيّة «عين على لبنان» مهرجان صور وأفلام تتعلق بالحرب غداً في مقهى «ة مربوطة»، الحمراء، 03،779947