strong>محمد رضا
  • الكاميرا «تشهد» في أميركا... وعلى الضفّة الأخرى


  • مناهضة السياسة الأميركية الحالية كانت وراء انبعاث ذلك الشكل الفني القائم بذاته. ولا شك في أن مايكل مور الذي بلغت مداخيل فيلمه «فهرنهايت١١/9» ٢٢٠ مليون دولار، ساهم في «إعادة اكتشاف» السينما التسجيلية عالمياً، وكان دورها قد انحسر مع تواري القضايا الكبرى التي احتضنتها في العقود الماضية

    قبل أيام من غزو العراق في عام 2003، وقفت المغنّية نتالي ماينز على مسرح في لندن وقالت معبّرة عن رأيها ورأي زميلتيها إميلي روبنسون ومارتي ماغواير: «نشعر بالخجل بأن يكون بوش من تكساس». الجمهور الإنكليزي ضحك يومها وصفّق فيما واصلت الثلاث العزف والغناء غير مدركات أنّ هذا الموقف سيكلف الفرقة غالياً، ذلك أن عين «الأخ الأكبر» تحصي هذه المواقف حبّةً حبّة خصوصاً أنّه بات يرفض أيّ انتقاد بعد اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر).
    نتالي وإميلي ومارتي هنّ أعضاء فرقة الكاونتري «ديكسي تشيكس» اللواتي تناولهن فيلم «ديكسي تشيكس: اصمتن وغنين» للمخرجة التسجيلية باربرا كوبل. جاء Dixie Chicks Shut Up and Sing ليؤرّخ للحادثة التي كانت منطلق المواجهة بين الفن والسياسة في أميركا بوش، وسبقت فيلم مايكل مور «فهرنهايت 11/9».
    انطلق الشريط التسجيلي الطويل من تلك الوثيقة المصوّرة لحفلة «ديكسي تشيكس» في لندن، ليدخل إلى الحياة الفنّية للفرقة التي وجدت نفسها تتعرّض لهجوم شرس بسبب موقفها النقدي، وهو ما أدّى الى تقليص نشاطاتها الفنية: إلغاء حفلات كثيرة بسبب تراجع نسبة الإقبال، ومقاطعة العديد من الإذاعات الأميركية لها والامتناع عن بث أغانيها.
    بعد فيلم «ديكسي تشيكس»، انتشرت أفلام خلال السنوات الخمس الماضية عن كارثة نيويورك وكوارث العراق وأفغانستان. هكذا استعان الفرنسي ويليام كاريل في «العالم حسب بوش» (2004)، بعدد كبير من الخبراء والسياسيين، ليظهر كيف أنّ اليمين الأميركي، وتحديداً المحافظين الجدد، استولوا على البيت الأبيض وقادوا الولايات المتحدة الى غزو العراق. من جهته، أخرج روبرت غرينوولد «الحقيقة الكاملة عن الحرب على العراق» (2003) الذي ارتكز على شهادات مباشرة من خبراء وأطراف أساسيين لإدانة السياسة الأميركية. لم يكتف غرينوولد بفيلمه ذاك، بل أتبعه عام 2004 بفيلم آخر عن الأكاذيب التي أغرقت فيها بريطانيا والولايات المتحدة الرأي العام، لتبرير الحرب على العراق.
    إلا أنّ شيخ هذا النوع من الأفلام يبقى صاحب «فهرنهايت ١١/٩»، مايكل مور الذي لم يكتف بتشريح الخدع والتلفيقات التي رافقت الهجوم على العراق فحسب، بل تعرّض مباشرة لقائد حملة التضليل الكونيّة، وسدد إصبع الاتهام إلى نزيل البيت الأبيض شخصيّاً.
    مايكل مور هو من دون شكّ أحد المبدعين الأساسيين الذين جدّدوا، بوضوح، السينما التسجيلية. هذا المخرج يقف على يسار الخط الفاصل بين أميركيتين ويطلق صواريخ أفلامه الى يمينه. وإذا كان هناك سبب واحد دفع الناس إلى «إعادة اكتشاف» السينما التسجيلية فهو حتماً... مايكل مور. ولا يمكنك إلا أن تبتسم وأنت ترى المخرج الإشكالي يحمل كاميراه ويلاحق أعضاء الكونغرس، ليسألهم لماذا لم يرسلوا أولادهم الى العراق ما داموا واثقين أنّها حرب عادلة وشرعيّة. ولا بدّ من أن تضحك لدى رؤية هؤلاء يبتسمون في البداية حين يلتقون بمور وينظرون الى الكاميرا كما لو كانت الفرصة متاحة لتسجيل نصر إعلامي... قبل أن يهرولوا بعيداً والمخرج الرهيب في أعقابهم!
    خطف «فهرنهايت ١١/٩» السعفة الذهبية في «مهرجان كان السينمائي الدولي»، ثم حصد أوسكار أفضل فيلم تسجيلي. ولا ريب في أنّ هذا النجاح عزّز دور السينما التسجيلية، وأعاد إليها نوعاً من الفخر الذي غاب عنها منذ رحيل القضايا الكبرى في الثمانينيات والتسعينيات.
    بين «كان» و«الأوسكار»، بلغت مداخيل «فهرنهايت١١/9» من شباك التذاكر ما لم ينجزه أي فيلم تسجيلي في تاريخ الفنّ السابع: 220 مليون دولار حول العالم بينها 30 مليون دولار من العروض الأميركية وحدها. لكن الحال ليست كذلك بالنسبة إلى فيلم مور الجديد «سيكو» الذي لم يجمع في الولايات المتحدة الا 17 مليون دولار. الشريط الجديد لا يعطي المشاهد شعوراً بأنّه يتناول موضوعاً ملحّاً، فيما «سيكو» أنضج فنياً من «فهرنهايت...»، وموضوعه بالغ الأهمية: إذ يدور حول واقع شركات التأمين الصحّي في الولايات المتحدة ويقارنه بنظام التأمين الصحي في بريطانيا وفرنسا وكندا وحتى... كوبا! وما حدث مع فريق «ديكسي تشيكس»، سيحصل مع مايكل مور الذي تعرّض لهجوم شرس من الأوساط اليمينية لأنّه تجرأ على نقد البنى القائمة، وأحد الأقانيم الأساسية للاقتصاد الأميركي.
    هذا عن الولايات المتحدة فماذا في العالم العربي... علماً أن المشاغل السياسية قد تبدو مشتركة (أو متكاملة) هنا وهناك، فيما تنتصب هوّة شاهقة بين العالمين من ناحية التقاليد الفنيّة والإمكانات التقنية والمادية. تتحرك السينما التسجيلية العربية في فسحة بين ما هو مُتاح وما هو مأمول، لكن بنتائج فنيّة جيّدة في معظم الأحيان.
    أحد أهم الأفلام التسجيلية العربية التي خرجت أخيراً هي «عاصفة من الجنوب» لوليد العوضي الذي تناول وضع المرأة في الكويت كما لم يفعل شريط وثائقي عربي قبلاً. تابع المخرج ترشّح ثلاث كويتيات لانتخابات مجلس النوّاب الأخيرة وما رافقتها من آمال بعهد جديد لتحرر المرأة، ثم خيبة الأمل الكبيرة التي تلت ظهور النتائج. صنع العوضي فيلمه بمهارة تقنية وبصياغة فنيّة جيّدة. وهو وإن اكتفى بجعل الكاميرا تتحدّث بحياد عما يدور، الا أنّه نجح في إيضاح الصورة من كل جوانبها.
    فيلم آخر عن المرأة وهمومها خرج من اليمن في الوقت ذاته. السينمائية خديجة السلامي أنجزت «أمينة» عن أم شابّة اتُّهمت بأنها شاركت في قتل زوجها. وعلى رغم عدم توافر الأدلة، أدخلت السجن... فاقتفت أثرها المخرجة التي تخطّت الحواجز، وجعلت من موضوع أمينة موضوع كل السجينات...
    ومن لبنان، صوّرت مي المصري قضيّة لبنانية مختلفة. في آخر أفلامها «يوميات بيروت»، تتعامل مع بحر المشاعر الصادقة التي رافقت توجّه الشباب اللبناني الى قلب بيروت عقب اغتيال الرئيس الحريري... قبل أن يصحو هؤلاء على الحقيقة الفجّة... واندثار الحلم بوضع أساسات وحدة وطنية راسخة ونهائية.
    وإلى جانب التجارب التسجيلية البارزة التي تناولت قضايا عامة أو مصيرية، راحت أعمال عربية أخرى تطرح مواضيع ذاتية لكن تصب غالباً في مشاغل الجماعة وأسئلتها. في «من يوم ما رحت» يحكي الفلسطيني محمد بكري لصديقه الراحل إميل حبيبي، تجربته مع الرقابة الإسرائيلية بعد عرض فيلمه «جنين... جنين» داخل الخط الأخضر. ويفصّل حكايته مع الجيش الإسرائيلي الذي أصر على تقديم المخرج للمحاكمة بتهمة الإساءة الى الوطن من خلال فيلم يكشف المذابح التي ارتكبها الإسرائيليون في المخيم المذكور عام ٢٠٠٢.
    ومن جهة أخرى تناول تامر عزت قصة أربعة مصريين يبحثون عن مستقبل أفضل في «مكان اسمه الوطن». كذلك نذكر «كحلوشا» للتونسي نجيب بلقاضي الذي هو عبارة عن كوميديا تونسية تحكي قصة هاو سينمائي يصنع أفلامه من دون إطار معين.
    بعض المواضيع العربية جاءت من الخارج أخيراً: «لون الزيتون» للمكسيكية كارولينا إيفاز، فيلم مُحمّل بطاقة إنسانية تتأمل وضع عائلة فلسطينية مؤلفة من زوجين وستة أولاد، تعيش في قرية فلسطينية تبعد 25 كليومتراً عن تل أبيب وتملك حقلاً من الزيتون. لكن تبعاً للجدار العازل الذي أقامته إسرائيل، تُقسم الأرض الى جزءين يفصل بينهما الجدار الذي يتوسّطه باب لا يُفتح الا بمزاج إسرائيلي. بذلك أصبحت العائلة سجينة منزلها، لا تستطيع الوصول الى أرضها، ولا تستطيع ارسال الأولاد إلى المدرسة. «سأدافع عن أرضي ما دمت على قيد الحياة»، يقول رب العائلة الذي تلتقطه كاميرا داوود سرهاندي جالساً تحت أشجاره ينتظر ــــ شأننا جميعاً.
    أما الأميركي جيمس لونغلي فقد بقي في العراق أسابيع عدة لتصوير «العراق في شظايا» الذي يمتلك بدوره حساً شعرياً وحركة كاميرا دؤوبة وحيوية. الشريط مقسم إلى ثلاثة أجزاء، تتناول السُنّة والشيعة والأكراد. في الجزء الأخير، يتحدّث الجميع عن ضرورة التقسيم باستثناء صبيّ يجسد ضمير شعبه: «العراق ليس قطعة تقطعها بالمنشار... العراق وطن».