strong> حسين بن حمزة
  • عودة إلى الأدب الحزيراني بعد أربعين عاماً من الهزائم

    قبل أربعين عاماً، وقعت الصدمة التي هزّت الوعي العربي، وغيّرت المسار الفكري والإبداعي لجيل كامل في ثقافتنا المعاصرة. في غمرة الانهيارات والحروب والهزائم، كيف نعيد اليوم قراءة أدب النكسة؟

    في الأحداث الكبرى، غالباً ما يدفع الفنّ ثمناً باهظاً. ما إن تنشب حرب أو تقع هزيمة، حتى تعلو أصوات لمطالبة الكاتب والمثقّف والفنان بالتخلي عن حياديّتهم. في القضايا الكبرى، الكتّاب هم أول المشكوك في أمرهم. إنهم يعاملون كمشتبه فيهم، أو كمتهمين حتى يُثبتوا براءتهم. حصلون عليها غالباً بوضع أقلامهم في خدمة المعركة. يشهرون كلماتهم في وجه العدو كما يشهر المقاتلون أسلحتهم.
    كانت هزيمة حزيران (يونيو) مدوّية إلى حد أنّ تأثيرها فاق تأثير النكبة. بعد النكسة لم تعد الكتابة ترفاً. صارت مطالبة بأن تُخلِص، بشكل مباشر ومن دون مواربةٍ، للموضوع والواقع والسياسة والالتزام والقضية. لم يعد في وسع النص أن يصغي إلى شروطه ومتطلّباته. اقتيد إلى ساحة المعركة، وانضوى تحت شعار «إزالة آثار العدوان» الذي راج وقتها. لقد خاضت الكتابة حرب استنزاف تم فيها استنزاف مقوّمات الكتابة نفسها. تحولت القصائد والروايات والقصص والمسرحيات إلى أسلحة، وراجت مقولات تساوي بين القلم والبندقية. صار الأدب ترجمة فورية للسياسة.
    لعل قصيدة نزار قباني «هوامش على دفتر النكسة» تمثّل الترجمة الأوضح لما حدث. نعى نزار «اللغة القديمة» و«الفكر الذي قاد إلى الهزيمة»، مُعترفاً بأن الهزيمة حولته «من شاعر يكتب الحب والحنين / لشاعر يكتب بالسكين». الأرجح أنّ آلاف الصفحات التي سطّرها الكتاب، ومئات اللوحات التي رسمها الفنانون، وعشرات الأفلام التي قدّمها المخرجون... ساهمت في ترسيخ هزيمة حزيران في الوجدان العربي، بحيث تحوّلت إلى جرح دائم النزف، لا يمكن أن يندمل. إنه جرح الأمة المفتوح (إذا استعرنا عنوان كتاب «الاسم العربي الجريح» لعبد الكبير الخطيبي).
    ولم يكن صاحب «طفولة نهد» لا أول ولا آخر المنضمين إلى قائمة الكتاب الذين «أفاقوا» على هول ما جرى. تخلى هؤلاء عن «لغتهم القديمة». رموا القلم واستلّوا «السكين» ليكتبوا به نصوصهم الجديدة. بعض الكتّاب فعلوا ذلك قبل الهزيمة. فلنتذكّر، على سبيل المثال، مجموعة «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» لأمل دنقل التي رأى النقاد أن الشاعر استشرف فيها الهزيمة القادمة، وكذلك مسرحية «المخاض» لممدوح عدوان الذي عاد وكتب مسرحية «محاكمة الرجل الذي لم يُحارب» (1970). لنتذكر أعمال سعد الله ونوس التي توّجها بمسرحيته «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» (1969)، وبياناته اللاحقة التي دعا فيها إلى «تسييس المسرح». وإذا كان انخراط الأدب في السياسة قد طبع أغلب الكتابات في تلك الفترة، فإن بعض الكتّاب آثروا أن يعبّروا عن الهزيمة بطريقة مختلفة. هذا ما فعله نجيب محفوظ في رواية «ثرثرة فوق النيل» (1971). أما عصام محفوظ فكانت قصيدته «وداع الأيام الستة» بمثابة وداع للشعر وانصراف نهائي إلى المسرح. وفي قصّة «تقاسيم على وتر الربابة»، روى الكاتب العراقي محمد خضيّر عودة جندي من ساحة القتال بعطب داخلي يمنعه من ممارسة الحبّ مع زوجته.
    لقد صنع الحدث الحزيراني مرحلة أدبية كاملة. صار لدينا «جيل الهزيمة» و«أدب النكسة». لم يقتصر الأمر على الأدب، بل جرت مراجعات فكرية حُلّلت فيها أسباب الهزيمة، ولعل كتاب «الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة» لياسين الحافظ يمثّل أشهر تلك المراجعات.
    كان الكتّاب مطالبين بالالتزام بقضايا المجتمع والأمة، بينما كانت النصوص تُقبل على أساس الموقف السياسي. راجت مفاهيم «الواقعية» و«الواقعية الاشتراكية» و«الواقعية النقدية». بالغ النقاد في تصوير الأدب كانعكاس حرفي للواقع. مُنحت شهادات حسن سلوك للكتّاب الذين تقيّدوا بدفتر المواصفات السياسية، وحُجبت عمن قيل إن كتاباتهم تطرح مفهوم «الفن للفن». أن يكون الفنّ فناً: كان ذلك أشبه بالشتيمة في تلك الأيام. كان الغموض مكروهاً، والكتابة عن أمور شخصية وهامشية شكلاً من أشكال الانزلاق إلى البورجوازية الطفولية. كان موقف الكاتب جزءاً جوهرياً من نصه. حتى إنّ بعض النقاد والقراء كانوا يطالبون الكتّاب بوضع حلول للأزمات والمشكلات الاجتماعية.
    ثمة كتّاب كثر يدينون بشهرتهم لهزيمة 1967. لقد أنجز هؤلاء نصوصاً مباشرة وفورية وعاطفية غير عابئين بتقنيات الكتابة ومتطلباتها. النقاد، بدورهم، تواطأوا مع هذه النصوص وروّجوا لها. بل إن الحماسة قادت بعض هؤلاء النقاد إلى ارتكاب مجزرة بحق الأقلام غير الملتزمة التي لم تنخرط في المعركة. وهو ما حدث في سوريا حين أصدر نبيل سليمان وبو علي ياسين كتاب «الأدب والأيديولوجيا في سوريا: 1967- 1973»، وحاكما فيه الكتّاب السوريين بحسب أيديولوجياتهم وطبقيتهم ومواقفهم السياسية. وفي السياق نفسه، خاض عدد من الكتّاب السوريين، وانضم إليهم كتاب عرب آخرون، جدالات ثقافية عنيفة، جمعها سليمان وياسين، بالاشتراك مع محمد كامل الخطيب، وصدرت في كتاب حمل عنوان «معارك ثقافية في سوريا» (1979). ثم استُكمل هذا الجدال لاحقاً وجُمعت مواده في كتاب «في علاقات الثقافة والسياسة» لفيصل دراج. أما لدى الفلسطينيين، الذين كانوا الضحية المباشرة للنكسة، فقد صعد نجم الشعر المقاوم، وتحوّلت أسماء محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد إلى أيقونات نضالية. تعامل النقد مع النص الفلسطيني بوصفه فعل مقاومة. الغريب أنّ هذا النص ــــ رغم اقتراحاته المتجددة ــــ لا يزال حتى اليوم يلقى المعاملة عينها من جانب الكثير من النقّاد والقراء.
    في ذكراها الأربعين، لا تزال اللحظة الحزيرانية حاضرة بوصفها محاكمة للمثقف على مواقفه مستمرة، وإن بطرق مختلفة. إذ كلما تعرضت «الأمة» لحدث جلل، عادت بعض الأصوات لتستنكر صمت المثقف وجُبنه وقلة اكتراثه للقضايا الكبرى.
    لعلّ من المناسب تذكر مقولة بريخت: «لن يقولوا كانت أزمنة سيئة، بل سيُقال لماذا سكت الشعراء»، كتبرير دائم الصلاحية لرفع الحصانة عن الكتّاب في زمن الأزمات.
    بعد حزيران، لم يعد الأدب ترفاً.