strong>محمد خير
  • من يخاف الشيخ الضرير في الذكرى الثانية عشرة لرحيله؟

    اثنا عشر عاماً على رحيل الشيخ إمام، وما زال صوته المبحوح مغيّباً عن وسائل الإعلام، ومختفياً من متاجر الكاسيت في القاهرة... وحاضراً بقوّة في الشارع ووجدان الناس. الشباب يردّدون أغنياته في التظاهرات، كأنّ شيئاً لم يتغيّر منذ السبعينيات. تحية إلى «فنّان الشعب» الذي برز في مرحلة مفصلية من تاريخ مصر، ووضعه بعضهم في مقام سيد درويش

    «مرّ الكلام، زيّ الحسام، يقطع مكان ما يمرّ/ أما المديح سهل ومريح، ينفع لكن بيضرّ»... كل شيء على حاله في ديار العرب منذ النكسة. هل نحتاج إلى دليل أوضح على ذلك من أن الشيخ إمام ما زال «ممنوعاً من الكلام»... على رغم مرور 12 عاماً على رحيله؟ ما زالت الأسطوانات التي تحوي أغنيات الشيخ، بصوته المبحوح ونبرته الحادة، ممنوعة بقانون غير مكتوب في متاجر الكاسيت، وفي الشوارع المصرية. وما زال حرّاس مبنى «ماسبيرو» على نيل القاهرة، يمنعون ذكرى الشيخ من الدخول مذ طردوه ورفيقه «الفاجومي» الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم قبل أربعة عقود. يومها، لم يتعرف أفراد الأمن بهما، لم يروا فيهما أكثر من شخصين يبدو عليهما الفقر يرتديان الزي «البلدي»، على رغم أنّهما كانا مدعوين رسمياً للمشاركة في أحد برامج الإذاعة. طردوهما فخرج الشيخ مستنداً إلى ذراع رفيقه ولم يعودا قطّ. وسرعان ما أصبح الثنائي «العدو رقم واحد» بالنسبة إليها.
    الشيخ إمام عيسى (1918 - 1995) الذي رفعه بعضهم إلى مقام سيد درويش، هوى به آخرون إلى مقام الموسيقي العادي الموهبة، واستقرت الغالبية على اعتباره من الناحية الموسيقية البحتة «لا مارد ولا عصفور». لكنّه في جميع الأحوال، كان الرجل الذي أعاد إلى الشارع حالة «فنان الشعب»، ورسم خطاً ممتداً بين حدثين أوقعا أبلغ الأثر بالمصريين: النكسة والانفتاح. وربما كان الذين ما زالوا يمارسون الحظر على أغنياته، أكثر ذكاءً مما نظن. فأغاني إمام ما زالت هي الأصدق تعبيراً عن الإنسان المصري، عن «الفقرا ومشاكلهم» و«مسائل عايزة التفانين»، وعن مصر «المحمية بالحرامية» التي ما زالت تنتظر أن يعود «التلامذة للجد تاني».
    في لمحة بصر، لمع نجم إمام عيسى الذي أقام حتى وفاته في حارة خوش قدم، بين الأزهر والحسين. انطلقت شرارة جمعت بين الفن والثورة، لتشعل منطقة الغورية في قلب القاهرة الفاطمية، حيث تقع حجرة ضيقة في الطابق الثاني من بناية متداعية، تزاحمت بين جدرانها طوابير وجماعات من المثقفين والطلبة والعمّال في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته. هؤلاء كانوا يستمعون إلى ألحان الشيخ الضرير الذي أطاح العلاج المتخلّف عينيه فأصابهما الرمد صغيراً، تماماً كما أطاح عيني طه حسين من قبل. ولئن أتيح لطه أن يبصر مدّة ست سنوات، لم يبصر إمام أكثر من عام واحد لم يتذكر منه، بطبيعة الحال، شيئاً.
    لم يكن شيء في تاريخ الفتى الذي هرب صغيراً من قريته أبو النمرس، جنوب القاهرة، يشي بمستقبل كبير في الفن ولا في السياسة، بل إن الفتى المولود في العام نفسه مع عبد الناصر والسادات، كان عبر الجزء الأكبر من عمره، ولم يسمع به أحد. حتى عندما التقى مصادفةً بالشاعر أحمد فؤاد نجم عام 1962، لم يكن يتبادر الى ذهنهما أكثر من تقديم بعض الأغنيات العاطفية. هكذا خرجت إلى النور أغنيتهما الأولى «أنا أتوب عن حبك»، وتدريجاً لفتت التجربة انتباه أصدقاء محدودين في شلة «حوش قدم». توالت أغاني إمام مع نجم بعيداً من السياسة: «ساعة العصاري»، «يا عم إدريس»، «عشق الصبايا»... وأخذت تزدهر حلقة الشعراء حول إمام، وتزدان بنجيب سرور صاحب «البحر بيضحك ليه»، فؤاد قاعود («مرمر زماني») وزين العابدين فؤاد وسيد حجاب وغيرهم.
    تقدّمت التجربة رويداً رويداً، حتى وقع الانقلاب الذي عصف بالعالم العربي. وكانت نكسة حزيران التي لم يعد شيء بعدها كما كان من قبل، بما في ذلك علاقة إمام بالفاجومي. حينذاك وضع الاثنان أولى لبنات مشروعهما الرائد في تاريخ الأغنية السياسية العربية.
    «الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا» كانت أوّل أغنية مصرية على الإطلاق تجرؤ على السخرية من عبد الناصر أو «عبد الجبار» كما سمته كلمات نجم. لكنّها لم تكن سوى البداية. وها هي «بقرة حاحا» بنبرتها الحزينة تبكي نهب مصر، و«يعيش أهل بلدي» تتمسك بالأمل والحماسة، ثم جاءت «مصر يمّا يا بهية» غزلاً وطنياً في حب مصر. اعتقلهما عبد الناصر ثم رحل عن الدنيا، فأفرج عنهما السادات ظانّاً أنّهما سيكونان أكثر رأفة به، ولو من باب ردّ الجميل. فإذا بهما يطلقان عليه أكبر حملة سخرية ضد حاكم مصري في الأزمنة الحديثة، على الرغم من استقبالهما حرب أكتوبر بأغنية «دولا مين ودولا مين». وتحفل السبعينيات بأغنيات من نوع «يا واد يا يوي» و«شرّفت يا نيكسون بابا» و«فاليري جيسار ديستان».
    عندها أدرك السادات غلطته وقرر أن يعيد الثنائي الخطير إلى السجن. دخلاه الشيخ إمام ونجم مراراً حتى قضيا من سنين السبعينيات داخل السجن أكثر مما قضياه خارجه. لكن ذلك لم يمنعهما من الاستمرار في الهجوم على السياسات الساداتية، ونقد ما أصاب المجتمع المصري من تحولات سلبية نتيجة سياسة الانفتاح الاقتصادي، ما يتضح في أغنيات «شعبان البقال»، «بوتيكات»، و«توت حاوي»، و«حلا ويلا»، وغيرها من الأغنيات التي بدت حينها أكثر قدرة على التأثير من عشرات الدراسات الاقتصادية.
    وتطول لائحة الأغاني التي يستعيدها اليوم الجيل الجديد، ويعيد اكتشافها بشيء من الورع، وكثير من الحنين: «يا فلسطينية»، «إذا الشمس غرقت في بحر الغمام»، «غيفارا مات»، «هوشي منة»، «رجعوا التلامذه» وغيرها مئات الأغاني التي ردّدها العالم العربي على اختلاف تياراته، وظروف بلدانه.
    التجربة ما زالت هي الأبرز من نوعها. وما زالت التظاهرات في شوارع القاهرة تستعين حتى اليوم بأغاني الشيخ، تردّد في وجه السيارات المدرّعة والقنابل المسيلة للدموع: «إطلق كلابك في الشوارع، وإقفل زنازينك علينا، عمال وفلاحين وطلبة، دقت ساعتنا وابتدينا».