وائل عبد الفتاح
حجرته التائهة في بيوت قديمة أصبحت عاصمة الغضب. وهو رجل يحبّ الملذّات. يبحث عنها بالحواس السليمة بعدما ضاع النظر بقوة الخرافة الجاهلة. أراه مثل مغنّي جاز اشتركت حياته في صناعة الحضور الساحر لموسيقاه. لا اعرف لماذا. ربما لأنني أحبّ سيرة مغنّي الجاز. أراهم صنعوا من تاريخ الألم موسيقى تورث علاماتها الغائرة في الارواح المرهقة، جيلاً وراء جيل. الشيخ الهارب دائماً من مصيره المنتظر، بارع في الانفلات من عالم مكتمل. قراءة القرآن في الإذاعة، أو على ناصية المقابر أو «أسطى» الاحتجاج السياسي. كلما حاصرته الاختصارات في حياته أو موته، أفلت بأعجوبة يمكن أن نسميها القوة الشخصية وسيسميها عموم المصريين: بركة العواجز. ربما سِحرُ الشيخ في أنّه لا يحبّ الحافة. لا هو ثائر صارخ ولا هو مستسلم للوقوف في طابور طويل.
قريته على هامش القاهرة أصبحت مشهورة الآن. اكتُشف موسيقي بين طيات النص المقدس، عرف أنّ الصوت ينير الطريق لكائنات محبوسة في غرفة مظلمة. رحلته هادئة صنعت تحولات عنيفة. ترك أحمد فؤاد نجم كتابة أغاني مشجّعي كرة القدم والعشّاق الذين يبحثون عن موصل جيد للعواطف، واتفق مع المغني الآتي من سلالة الشيخ زكريا أحمد على بداية مختلفة لا تشبههما. عكس المسار وبثقافة خفيفة تعتمد على حس شعبي غامض بالتمرّد على كل سلطة. اكتشف الشيخ الطريق الذى حفره شيخ آخر خلع قبله العمامة والكاكولة التقليدية لشيوخ الأزهر. اختار إمام إذاً أن ينتمي الى سلالة سيد درويش. لكنّه بمزاج الستينيات اللاذع. الشيخ عثر على الجزء الضائع من نفسه فى يسارية فطرية، من دون أفكار كبيرة خشنة متقشفة تخلط مزاج التحريض بهجاء اخلاقي شعبي. هذه هي الأشعار. لكنّ الموسيقى كانت في رحلة أخرى تبحث عن أسلاف غائبين. موسيقى دائمة لكلمات تبدو يومية وعابرة في هجاء اللحظة الساخنة.
رحلة إمام تُختصر أحياناً في المطاردة السياسية بدءاً بأمن دولة عبد الناصر الى السادات. لكنّها ليست كذلك، تمتم هو: مغنّ جوّال. أصبحت حجرته عاصمة الغضب ومقر تجمّع مجنونات البرجوازية المفتونات بالمذاق الشعبي الحارق. كوّن عائلة جديدة هو ونجم ومتطوعون أصبحوا شركاء. عائلة تتعارك وتختلف على أشياء بسيطة من اقتسام الشهرة الى المال. طارت الخلافات وبقت ذكريات عالقة في حجرات وبيوت كأنّها محطات اكتشاف لجوقة واسعة متجددة. الجمهور يتحول الى جوقة والجوقة تذوب لتصبح جمهوراً يحمل طرائف عن العاجز الذي يضحك على العجز، عجزه الشخصي وعجز سياسي كامل الأوصاف.
ألحان إمام سافرت خارج الحجرة والرفاق المتجمعين حول أعجوبة الستينيات: نجم وإمام. كلما بدا أنّ زمنه انتهى، يظهر من جديد ليس على موجة الهجاء السياسي الحالية التي تستعيد ربيرتوار الستينيات مثلما يحدث مع نجم. موسيقى إمام عابرة اكثر، تستيقظ طريقته في الغناء وألحانه كأنها مقيمة في منطقة عميقة لا يمكن اختصارها أو وضعها في مخزن تحت لافتة: الأغنية السياسية أو معارضة الأنظمة الجبارة.
موسيقى هاربة من استهلاك البضاعة الشعبية تتجاوز تصنيفها، وتمنح الغضب صورته الحيوية. لا نموذج الصلابة المتخيلة، بل موسيقى تلاحق الحواس المهجورة المشحونة بسخرية ودلال، وألعاب الحياة تشبه صاحبها الشغوف مرة أخرى بالملذّات الذي لم يكن يخفي الولع بالنساء ولا بالطعام. لم يحب صناعته مثالاً للزهد... إنه مقتنص المتع المحرّمة، وبينها متعة الغضب والاحتجاج وتحويل الزنزانة الى جزيرة للمطرودين. هكذا قاد الاعمى مبصرين حرمتهم الحياة من القدرة على مغامرة من دون حساب.