strong>بيار أبي صعب
  • إيروس ضدّ تاناتوس في غاليري عايدة شرفان


  • تستدرج فلافيا قدسي شخصياتها إلى الفرح والنشوة، والاحتفال بمتع الحياة البسيطة. «أكلة الفاكهة» معرضها الذي جاء يحتفي بالربيع، في وسط بيروت، كاد يمرّ من دون أن ينتبه إليه أحد. جولة بين لوحات تعيد الاعتبار إلى التصويريّة، وتأخذ «الواقعيّة» إلى حدّها الأقصى

    تمعن فلافيا قدسي في التصوير الدقيق لمَشاهدها. تتأنى في نقل الواقع، تبالغ في رسمه بأمانة نخالها فوتوغرافيّة... حتى ينتفي هذا الواقع، لا يعود واقعاً. ويفقد المشهد أي شبهة «طبيعيّة»، يصبح أقرب إلى مناخات مجرّدة. نجد أنفسنا أمام احتفال خاص ينضح بالغرابة، تغمرنا دهشة طفوليّة هنا، أو ينتابنا فضول في اختراق سطح اللوحة هناك، للدخول إلى دائرة الضوء (الاستوديو؟) والمشاركة في اللعبة. أو ربّما أمكن التسلّل إلى الكواليس لمعرفة الحكاية. هناك حكاية حتماً، قد لا نعرفها أبداً. وإلا فلماذا ترمقنا الشخصيات هكذا، ضاحكةً على الأغلب هذه المرّة، أو تشيح بوجهها عنا منصرفة إلى أحد تلك الطقوس الأليفة والغريبة في آن، التي وحدها فلافيا تملك سرّها؟
    ليست من الواقعيّة في شيء، فلافيا قدسي (١٩٦١)، إنّها ساحرة خطيرة. هذه الفنّانة التي تنتمي ـــــ على طريقتها ــــ إلى جيل ما بعد الحرب في الحركة التشكيلية اللبنانية، جاءت إلى الرسم من خارجه. لم تعبر في الأكاديميات والمحترفات، بل بدأت من هندسة الديكور، وهو ما يفسر أموراً كثيرة في سلوكها المتقاطع باستمرار مع النزعة الأكاديميّة. جاءت إلى الفن من خارجه، وبقيت خارج التصنيفات والموض والاتجاهات والمدارس. ولعلّها الفنانة العربية الوحيدة التي تخوض تجربة الـ Hyperrealism أو الواقعيّة القصوى، بهذا الإقدام وتلك الفوقيّة، من دون أن تنزلق إلى التزيينيّة السطحية التي تناسب صالونات محدَثي النعمة، في زمن الثروات السهلة والسريعة.
    «أكلة الفاكهة» معرضها الأخير في «غاليري عايدة شرفان» (وسط بيروت) الذي ضمّ مجموعة زيتيات (مع أكريليك أحياناً) من أحجام مختلفة (صغيرة أو متوسطة حين تقتصر على الفاكهة، كبيرة حين تحتلها الشخصيات مع الفاكهة)، كاد يمرّ من دون أن ينتبه إليه النقد، بسبب الدوّامة التي تلف البلد على الأرجح. علماً أن قدسي رسمت لوحاتها الحميمة الهادئة، وسط ذلك الصخب تحديداً، كأن الحياد الظاهري الذي يكتنف عملها موقف سياسي بحدّ ذاته. لكن سرعان ما سنكتشف، أو نحس أننا، هنا أيضاً على حافة بركان... العنف خارج مجال الرؤية، hors champs، حسب المصطلح السينمائي، لكنّه كامن في ثنايا المشهد... ترد عليه الفنانة من خلال تلك اللعبة الحسية التي تتجسّد أيضاً في مهرجان الروائح والألوان. تستأنف قدسي «المسرحة» التي بدأتها منذ سنوات، هي التي سبق أن اشتغلت على النوم والجاذبيّة، وصولاً إلى معرضها «مراحل» (Phases) في الـ ٢٠٠٣. تستدرج فلافيا شخصياتها إلى الفرح والنشوة الشبقيّة، الشهوة والاحتفال بالمتع البسيطة، لذّة الحياة الأولى، ردّاً على العنف، وانتصاراً على الموت. إيروس يتصارع مع تاناتوس في غاليري شرفان، بالسلاح الأبيض إذا جاز التعبيرالفاكهة ليست جديدة على عالم فلافيا قدسي، لكنها هنا تحتل مكانة الصدارة ودور البطولة. مجموعة شخصيات جالسة أو واقفة، في علاقة ما مع الثمار: تأكلها، تقطعها، تطعمها لشخصية أخرى، تستعملها عنصراً للزينة، بل قل أكسسواراً مسرحيّاً. مجموعة احتفالات صامتة، وطقوس وثنيّة غامضة لا نرى منها ــــ للوهلة الأولى ــــ سوى الجزء الظاهر. أورجيّات خفيّة (orgies) حين لم يعد شيء على ما يرام في الخارج. كل هذا العنف خارج الاطار، إننا نحسّه، نحزره. لكن اللوعة خمدت هنا، إذ قامت فلافيا بعزل العالم الداخلي الأليف، الهادئ المحايد، الحميم كما في قصيدة لبسّام حجّار. العزاء في الشبق إذاً، تغلفه خفّة طفوليّة عابثة؟ الخلاص في متعة الحواس، هذا الربيع الذي لا يحمل أملاً بالقيامة والانبعاث؟ لا بدّ من أن نرى في لوحة فلافيا قدسي كلّ ما ليس فيها.
    في مسرحها الخاص، تجسّد الفنانة صوراً ذهنيّة ورؤىً راودتها، وسط ديكور متقشّف، مختزل إلى عناصره الأولى، في فضاء كل شيء فيه مدروس ومرتّب بعناية: الاضاءة مسرحيّة بامتياز، الملابس مصمّمة لمشاهد درامية على الأرجح حتى حين تكون عصريّة، حركة الأجساد، العمق غائب (المشاهد مؤطرة ضمن بعدين)، والخلفيّة غالباً مجرّد مساحة لونيّة تختزن كل القلق الداخلي، والخوف، الملل، اللامبالاة، الانتظار، الوقت العابر ببطء... لذة العيش.
    رسم فلافيا احتجاج على العالم، اقتصاص منه، انسحاب إلى داخل افتراضي، فوتوغرافي، الفرح فيه ما زال ممكناً. والنشوة أيضاً. استعادة لأحاسيس بعيدة هاربة. تستفيق الحواس هنا، رائحة البطيخ وطعم الفراولة ولون التوت، وبريق العنب الأبيض، الجنارك، تفاح الغولدن والستاركن، البرتقال والإجاص... تأخذنا الفنانة إلى انفعالات خبيئة، وذكريات لامبالية... أيام كان العالم جميلاً، والفرح ممكناً. إنّه مارسيل بروست يبحث عن الزمن الهارب، في كنف فلافيا قدسي...
    تجربة قدسي تقوم على تجديد نظرة المتلقي إلى الفن التصويري، بل اعادة الاعتبار إلى التصويريّة برمّتها. هي التي تبدو كأنها تنطلق، في تحقيق لوحتها، من كليشيهات فوتوغرافيّة. تلتقط مشاهد من الحياة العابرة في تجلياتها اليومية وطقوسها العادية جداً. تعيد انتاج الواقع، تكتب ميثولوجيا الراهن، بل تقوم بعمل أنتروبولوجي، إذ ترصد سلوكيات وممارسات وعادات طائفة معيّنة من الناس، مدينيّة بامتياز. نقل الواقع لم يعد غاية بحدّ ذاته، المهمّ هو اعادة انتاجه في لوحة تطوّع العناصر والأجساد، الوضعيات والتفاصيل الصغيرة (ثنايا الثوب مثلاً)، في عمليّة تجيير وتكرير للواقع... لنقل «اعادة توظيف شاعري للواقع المديني» حسب تعبير الناقد الفرنسي الشهير بيار ريستاني صاحب المانيفستو الذي أعلن ولادة «الواقعيّة الجديدة» في ستينيات القرن الماضي.
    ريستاني وإيف كلين وأرمان وصحبهم أرادوا القطيعة مع مختلف أشكال الغنائيّة والتجريد والواقعيّة السوسيولوجيّة على حدّ سواء، وسعوا إلى اعادة تملّك فوري للواقع، برموزه وأشيائه وأماكنه... وبهذا المعنى قد تكون فلافيا وريثة غير مباشرة لـ «الواقعيّة الجديدة». هي أيضاً ترى العالم لوحة، وتعبّر عن حقيقة هي ابنة لحظتها، وتقدّم لنا فرصة لرؤية الواقع من زاوية جديدة، عبر مظاهره الأكثر قدرة على التعبير. إنّها ترسم أيقونات الزمن الحاضر، عينها على الطبيعة الجامدة، وعلى المشاهد الأكاديميّة التي رسمها المعلّمون الكبار...
    فلافيا حكواتية الراهن: تروي مشاهد أليفة، ترسم غالباً معارفها ووجوهاً من محيطها، تلتقط وقع الحالة الشعوريّة على الجسد، انعكاسها في مرآة اللوحة على المتلقي الذي يبحث عن نفسه بين الحكايات والأماكن والمشاهد. شاب وشابة يتبادلان الفراولة وقوفاً، نراهما في لقطة مقرّبة جانبيّة («زمن الفراولة» في احالة إلى أغنية «زمن الكرز»؟)... رجل ملفّع مشغول بقص البرتقال، كأنّه راهب في مطبخ الدير، على خلفيّة رصاصيّة مقلقة. صبيّة بالجينز، ساهمة، تأكل التوت في لقطة نصفيّة، على خلفيّة واسعة بالأزرق الممشّح بياضاً. وهذا الرجل ذو الضحكة الماجنة، جالس وعلى رأسه عنقود من العنب؟ سمّته Théonysos، في احالة إلى ديونيزوس إله الخمرة والمسرح عند الاغريق القدماء. وكيف ننسى المرأة الحبلى على رأسها بطيخة، والمرأة المكتنزة التي تأكل الكرزة بطريقة احتفالية، والشاب ذا اللحية الصغيرة على خلفيّة حمراء صارخة، قبعته الصوف صارت خوذة محارب روماني بعدما أضاف إليها قرنين من الموز...
    الواقع مخفف من حمولته الرمزيّة هنا، لمصلحة طاقة حسية كامنة، وتداعيات شعوريّة، وسط حالة من الخواء والقلق والغرابة. الديكور مرتبط بالشخصيّة يكمّلها، والحركة أو الوضعيّة هي الي تحتلّ بطولة اللوحة... إلى جانب الفاكهة.
    لوحة فلافيا قدسي تستدعي عوالم مختلفة من الخرافة العلميّة إلى الشرائط المصوّرة. النظرات باسمة، شاردة، عابسة، تدعونا إلى دخول المشهد، فيها شيء من الغواية. ولا عجب... الخطيئة الأصليّة تخيّم على اللوحة، تذكّرنا بجدتنا حوّاء وجدنا آدم وأسطورة الخلق. النزعة الوجوديّة حجر الأساس في بنية اللوحة، الردّ الأخير على اللغط العام. وحين يتفوّق الموضوع على اللوحة المسكونة بحنين إلى الزمن الحاضر... المرسومة بدقة تبلغ حدّ الهلوسة، لا نكون بعيدين عن الفوق ـــــ واقعيّة، أو الواقعيّة القصوى التي تلامس فلافيا قدسي حدودها بكثير من النزق والحريّة.