حسين بن حمزة
مَن يشاهد جوزف عيساوي على التلفزيون يظن أنّ ظهوره الإعلامي يأخذ كل وقته. لكنه يُفاجئنا من حين إلى آخر بمجموعة شعرية صغيرة. ليس غريباً أن يكتب جوزف عيساوي الشعر، فهو شاعر أساساً. المفاجأة مردّها أنّ الشغل التلفزيوني بطبيعته يعمل ضد الشعر. الشعر ممارسة جانبية وانطوائية تجنح بالشاعر إلى الزهد والعزلة. أما التلفزيون فيصنع أيقونات ونجوماً. الشعراء ليسوا أقلّ نجومية طبعاً، لكنّ نجوميّتهم عتيقة الطراز، وتُصنع بممارسة مختلفة أكثر خفوتاً وتقشّفاً.
المفاجأة التي تنتطر قارئ مجموعة «القديس X» (دار النهضة ــــــ بيروت)، تتمثّل في نوعيّة الشعر الذي يكتبه عيساوي. شعر طالع من مطارح غير مفكّر فيها شعرياً... أو ليست دارجة ومتهرئة من كثرة الاستعمال.
يشعر القارئ أن القصيدة مكتوبة وفق طلاقتها الخاصة، وأنها غير مكترثة لسلوك طريقة أو الانضمام إلى تيار. هذا لا يعني بالضرورة أنها كتابة فريدة ومولودة من نفسها. القصد هو أن ثمة محاولة لجعل الشعر يقول أشياء لا تُقال كثيراً. هناك خصوصية في مقاربة موضوعات القصائد، إضافة إلى طزاجة في الصور التي تلمع هنا وهناك، وتمنح الكتاب جرعة زائدة من الخصوصية.
لا يخترع عيساوي عبارته الشعرية من العدم. نبرته قريبة مما اتُفق على تسميته باليومي والعابر والمتواضع من الأشياء والحوادث. لكنّ الشاعر يكتب ذلك بمزاج خاص. يكتب اليومي والعابر لكنه لا يكتفي بذلك. ثمة جهد مبذول لتكون الجملة أعلى من يوميتها، أو أثقل منها. لنقل إنّ لغة القصائد ليست شديدة النثرية، كما الحال في الشعر اليومي، وإنها، في الوقت نفسه، ليست لغة درامية أو مجنحة. هناك فلسفة ما في هذه اللغة تجعلها بين بين. ولعل حضور مواد ورموز دينية يمنح اللغة بعضاً من ثقلها ومتانتها، حتى إن القارئ قد يُصادف صورة شعرية تمزج مشهداً يومياً عادياً بمادة دينية: «سيارات تعبر / تلمع كحجارة معبد قديم».
العنصر «الديني» في المجموعة، لا يأتي لتلبية حاجة إيمانية... أو تجديفية. إنه مقترح شعري، شأنه شأن أي ثيمة أخرى. والشاعر نفسه سرعان ما يحطم هذا الإحساس لدى القارئ، وذلك حين يقلب المادة الدينية على قفاها ويستدرجها إلى تكوين شعري يبدو كأنه يدنّس التصور الغيبي: «إصبع السماء / في مؤخرات / يحلم بالجنة موتاها؟»، أو «لحىً مقوّاة / بسماد الخطايا»... وتارةً أخرى يستثمر الشاعر ذلك في صورة مدهشة: «ثلوج كانت نوايا / وممرات غزلان / تغمر قبب الكاتدرائية البعيدة / تحجب عن السماء / ابتهالات المصلين».
الأرجح أنّ الآلهة والقديسين والمتعبدين والشياطين ليسوا مستقلين في مجموعة جوزف عيساوي، بل يعملون في خدمة القصيدة. في سعيه إلى شعر مصفّى، يحق للشاعر أن يستدعي أي شيء لكي يُنجز عمل المخيلة. لذا علينا أن نصدقه حين يكتب: «صوتي الخافت / يتسلق عشب الفجر / يذوب مع ثغاء القطيع».