قبل يومين، كان من المفترض أن تلتقي كاميليا جبران الجيل الجديد من الموسيقيين المصريين، ضمن برنامج «المورد الثقافي» في القاهرة. أعدت الملصقات، ووزعت الدعوات... لكن الفيزا لم تأتِ! ولم تتمكّن الفنانة الفلسطينيّة البارزة من دخول الأراضي المصريّة، برفقة شريك تجربتها ـــ في المرحلة أخيرة خصوصاً ـــ الموسيقي السويسري فرنر هاسلر. وقبل شهرين، أبدى جزء من جمهور «ربيع الثقافة» في البحرين نوعاً من التحفّظ، أو عدم التجاوب مع أغنيات كاميليا الجديدة التي تعتبر مفترق طرق حاسماً في مسيرتها، وفيها تغني قصائد لسلمان مصالحة وبول شاوول وفاضل العزاوي وغيرهم! من الصعب حقاً أن تتآلف الأذن التقليديّة مع القالب الفني الجديد الذي تقترحه هذه الفنانة المقدسيّة على الأغنية العربية، أداءً وألحاناً ومرافقةً موسيقيةً. في السنوات الأخيرة تبنّت مغنية فرقة «صابرين» سابقاً، تجربة أكثر حداثوية من التجارب السابقة، بملامستها حدود المينيماليّة (Minimalism) إذا جاز التعبير. تجسّد ذلك المنعطف في أسطوانة «وميض» (2005) التي جمعت بين صوت كاميليا وإلكترونيات الموسيقي السويسري فرنر هاسلر. لكن جزءاً من الجمهور بقي يفضّل كاميليا كما عرفها وأحبّها أيام «صابرين»، حين كانت أغنياتها تتسرّب إلينا من وراء جدران الاحتلال السميكة.
ارتبطت تجربة كاميليا جبران الموسيقية بهمّ التجديد، وتطوير الأغنية الشرقية في جميع مكوّناتها (موسيقى، غناء وآلات...)، وذلك منذ مشاركتها في تأسيس فرقة «صابرين» الفلسطينية التي عملت معها طوال 20 عاماً (1982ــــــ2002). إلا أنها اختارت منذ خروجها إلى سويسرا، مساراً أكثر راديكالية، فأصدرت «وميض» الذي أدت فيه 11 قصيدة «حداثيّة» لشعراء يكتبون قصيدة النثر في معظمهم، جامعة بين جبران خليل جبران وديميتري أناليس، وعائشة أرناؤوط وسوسن دروزه والشعراء الواردة أسماؤهم أعلاه.
«وميض» عمل تجريبي يفتح أبواباً جديدة في أسلوب أداء الأغنية العربية، وتلوينات الجملة اللحنية وضوابطها الإيقاعية. أما من ناحية المادة الإلكترونية المرافقة لأداء جبران، فقد اعتمد فرنر هاسلر في معظم الأحيان الجملة الموسيقية التكرارية (المصمّمة إلكترونياً)، على غرار التيّار الطليعي الذي أسّس هذا النمط في مطلع النصف الثاني من القرن المنصرم، وخصوصاً في الولايات المتحدة. ويمكن أن نذكر ضمن ذلك الاتجاه مؤلفين كباراً من عالم «الموسيقى الكلاسيكية الحديثة»، أمثال فيليب غلاس وستيف رايخ وتيري رايلي... هؤلاء بدورهم تأثروا بالتكرارية الصوفيّة في الفنّ الإسلامي، وثقافات الشرق الأدنى. يضاف إلى ذلك النكهة «الهلوسية» الملاصقة إجمالاً للموسيقى الإلكترونية، التي تسمح بها إمكانات التلاعب اللامتناهية بالصوت من خلال البرامج الخاصة.
أما بالنسبة إلى الإيقاع، المركّب الكترونياً أيضاً، فأتى رتيباً بطبيعة الحال، تماشياً مع الجو التكراري للأنغام. هذا إضافة إلى أنّ رتابة الإيقاع أسلوبٌ بات كلاسيكياً في عملية ضبط الموسيقى الإلكترونية. ولم يبقَ من الآلات الموسيقية الحيّة، في أعمال الثنائي جبران/ هاسلر، سوى العود الذي يقول جملاً مبسّطة... وهي مادة موسيقية ـــ لم يشر إليها الكتيّب المرفق بالأسطوانة ـــ تحاول الاقتراب مما يقوله الكومبيوتر الذي يحاول بدوره الاقتراب منها. وهذا التجاذب يبدو عبثياً كلّما دخل الإحساس البشري بقوة في عملية النقر على أوتار العود. «وميض» تجربة رائدة، من دون شك، في مسار تطور الأغنية الشرقية التي ارتكزت اليوم مع كاميليا جبران على الانفتاح على الموسيقى الإلكترونية البحتة، إيقاعاً ونغماً... بعدما تجلّت بالأمس (مع كاميليا نفسها وآخرين)، في عمليات أرادت مزج مكونات الموسيقى الشرقية بالأنماط التي أنتجها الغرب. هذا الانفتاح في الاتجاهين، ولّد مختلف أنواع الدمج... باستثناء ما لا تسمح موسيقانا الشرقية، بسبب إحدى أهم خصائصها المتمثلة في ربع الصوت الذي شكّل العائق الصلب بين هاتين الثقافتين. إذ إنّ معظم الآلات الغربية لا يمكن أن تصدره فتكتفي بالاقتراب من بعض المقامات الشرقية التي لا تفرض أرباع الأصوات (كالنهوند والحجاز).
  • بشير...


    «وميض» ـــ كاميليا جبران:

    www.kamilyajubran.com