strong> رلى راشد
  • هل الحياة ممكنة بعد الكارثة (وجائزة «بوليتزر»)؟

    كورماك مكارثي «يانكي» تعذّر القبض عليه طويلاً. لا تمنح قراءته طوقاً للنجاة. ويصعب تقويم أدبه الذي وصل إلى مستوى السؤال اللاهوتي، والشكوى المتيافيزيقية... عودة إلى عالم هذا الكاتب الأميركي الذي وقع في فخّ الأضواء، بعد فوزه بجائزة «بوليتزر»

    كورماك مكارثي يهوى التوحّش. يهيم بحثاً عنه في شتّى الأماكن والميادين والكائنات، في الحيوانات والمناظر الطبيعيّة وحتى الناس. انتفض هذا الروائي الأميركي على بيئته العائليّة المُترفة في مرحلة مبكرة. أدار ظهره مفضّلاً الاقتراب عبر اللغة من حَيوات مُعدمين وهامشيين يلهثون خلف «أحلامهم الشقيّة». وكانت النتيجة بقاء مكارثي خارج أسوار جنّة محدثي النعمة في تاريخ الأدب الحديث.
    مكارثي السبعيني حالةٌ فريدة في الثقافة الأميركيّة المُعاصرة، وشخصيّة ملأى بالمفارقات. بعد عقود من الالتفاف المتعمّد على صوته الفطري، تذكّرته أخيراً جائزة «بوليتزر» (بعد جائزة «ناشونال بوك» وجائزة النقّاد الخاصة بـ«ناشونال بوك»). وها هي تحتفي بروايته «الطريق» (دار نوف ـــ 2006) التي بيع منها حوالى مليون نسخة.
    وهذا الاختيار دحض معايير السوق التي أقعدت الكاتب طويلاً في كواليس النُخب المؤثّرة، وحوّلته الى «حالة» بعيدة المنال حتّى «ثلاثية الحدود» التي تتألف من: «كلّ الجياد الجميلة» (1992) تحولت فيلماً سينمائياً حظي باهتمام النقاد، و«العبور » (1994)، و«مدن السهل» (1998). رواياته السابقة للثلاثية، جاهدت، عبثاً، لتَخطيّ عتبة الخمسة آلاف نسخة. لكنّ الأرقام لم تُؤرق يوماً مكارثي المفطور على المعارضة. هو لم يأبه لامتثالية أقرانه، بل نبذ القوالب الجاهزة ومَقت الوكلاء الأدبيين والمهن الثابتة، والقراءات الأدبيّة العلنيّة، وبدعةَ أن يذيّل اسمه مُقدّمات الكتب الرائجة. وهو كسب في المقابل مكانةً على حدة. مكانة تجاهلت البُعد الترويجي لاسمه، ليلتحق «ابن العائلة» البورجوازية بالأقلام الأميركيّة الغامضة التي يسكنها الهمّ الثقافي مع اقتنائه ما يزيد على سبعة آلاف كتاب!
    كورماك مكارثي «يانكي» تعذّر القبض عليه طويلاً. ولد مطلع ثلاثينيات القرن العشرين في رود ايلاند، وارتاد ثانوية كاثوليكية في جامعة تينيسي التي ما لبث أن غادرها ليلتحق عام 1953 بقوات الجو الأميركية، مدّة أربع سنوات. ثم يعود إلى الجامعة، ليهجرها من جديد. تنقّل مكارثي، كالبدو الرحّل، بين الخيارات... ليتلفّع أواخر الخمسينيات بعباءة الأدب، وينتج روايات مُزعزعة، تحتضن في فضائها أفراداً ملعونين... ليسوا سوى حُطام بشر، وبقايا هويّات مهشّمة، في مواجهة الجريمة والخواء والقدر. تقشّفَ مكارثي في منح المُقابلات الصحافية، فرفدت الأقاويل والشائعات يومياته، وبلغ التلصّص على خصوصياته ببعض الصحافيين، حدّ التنقيب في قاذوراته! وبقي تكتّم مكارثي على خلفيات رواياته هو القاعدة، باستثناء Suttree (1979) التي تحتفل ـــ في صيغة الطقس الوداعي ـــ بمجانين وعاجزين يشبهون إلى حد مدهش ندماءه في الحانات القذرة، وحجرات القمار التي كان يرتادها في مرحلة شبابه.
    مكارثي بلا شك صانع لغة «تجتاح» كالإعصار، وجمل تنضحُ حياةً وإن بلغت تخوم الموت. في روايته «الطريق»، يدفعنا مرّةً ثانية الى أماكن لا نرغب ارتيادها، يُرغمنا على طرح أسئلة نتجنّبها. هللّ النقّاد لـ«الرواية الاستثنائية»، وحلّ صاحبها ضيفاً على حلقة «نادي الكتاب» التي تقيمها المقدمة أوبرا وينفري مرّةً في الشهر، وتستضيف فيها كاتباً بارزاً. هكذا، نجحت وينفري في استدراج الرجل الغامض الى الأضواء.
    «الطريق» رواية فُصّلت حول أضغاث لحظات، ونثار حوارات، والتماعات حبّ متقشّف، من خلال رصدها أفول الحياة على كوكبنا. إنّها نهاية العالم، وآكلو لحوم البشر يهيمون حاملين بين أنيابهم قطع لحم بشريّ نهشوه للتوّ، فيما السماوات أبوكالبتيّة قاتمة كما في يوم الحشر. وسط هذا الرعب، نرى رجلاً مجهول الهوية مع ابنه السقيم، تُوحّدهما عاطفة عميقة، يسيران وسط خراب أميركا المحروقة، يتوجّهان إلى الساحل علّ الخلاص يكمن هناك. لا يملكان سوى مسدس ورصاصتين للدفاع عن أنفسهما من العصابات المارقة التي تملأ الطرقات والشوارع. يكتب ماكارثي أبياتاً نَثريّة تطبعها فظاعة «أرض متآكلة وجرداء، تبعثرت في رمادها عظام المخلوقات النافقة...». وثمة اقتراب مُعبّر في الرواية ـــ وإن جاء خاطفاً ـــ من وقوع الكارثة قبل سنوات، بالتزامن مع ولادة الصبي، يجُسدّها أشخاص يُشبهون الانتحاريين، وقد أخفقوا في تحقيق مرادهم وهم يقفون «على رصيف الفجر» و«الدخان يتصاعد من لباسهم».
    في «العبور»، نسج مكارثي علاقة حبّ لافتة بين بيلي بارهام وذئبٍ فيما يتراءى لنا أنّه ترك في «الطريق» حيّزاً ضيقاً للحبّ، علماً أنّه ذهب بعيداً في تناول حالة الأبوّة كعلاقة وصلة. لطالما قارب مكارثي الصراع بين الضوء والظلمة المُسيطرة، فيما بقي النور وهماً، ضياءً هزيلاً بالكاد تنقشع عنه العتمة. في «الطريق» يصل الروائي الى دنيا في صدد الموت، ونجد تأكيداً أخيراً على الأمل في الصفحات الأخيرة من الرواية عندما يستجمع الفتى غيظ والده ويعبُر من خلاله الى غيظ مكارثي.
    منذ باكورته «حارس البستان» (1965) أسّس مكارثي لرؤية أبوكاليبتية تميل الى إغفال نصف البشريّة، أي النساء. أدبه الذي اتهم بالادعاء، والمصاب برهاب الفضاءات المغلقة بحسب بعض النقاد، تلافى الكتابة عن الأحياء والشجون العائلية، وتمسك هذا الراديكالي المُحافظ، بإيمانه بقدرة الرواية على التعامل مع شتّى الاهتمامات الإنسانيّة الأخرى. بهذا المنحى ساهم من خلال غزوه لماضي أميركا وماضي جارتها المكسيك في تعبيد المسار المُؤدّي الى دواخل الغرب العنيف.
    لا تمنح قراءة كورماك مكارثي طوقاً للنجاة، بل تُدخلنا في طقس دائم التوتر. في غمامة الالتباس التام، لا بدّ من أن يلي اليوم الجيّد حتماً يوم آخر سيء. وقد نفّر العُنف المُغلّف بالدم جزءاً من قرّاء رواية «ما من وطن للرجل العجوز». تلك الرواية التي تفتح مصراعيها على مشهد سجين يخنق نائب العمدة بسلاسل أصفاده. وكحال الكتّاب المُلتزمين التشاؤم، يصعب تقويم أدب مكارثي بعدما وصل إلى مستوى السؤال اللاهوتي، مُنعِشاً الشكوى المتيافيزيقية ولا سيما في «خطّ الدم» (1985).
    «الطريق» استعارة لعدميّة العنف ترفّعت عن الفواصل بين الجمل، لتُربط بين أجزائها حصراً بواو العطف التوراتيّة، المُستلّة من العهد القديم. ربما تخيّل مكارثي عبر الرواية الصورة النهائيّة لما سيكون عليه كوكبٌ أفاق للتو من تداعيات حرب نوويّة، صورة تبدو شديدة الدنوّ منّا، في عصر تتبجّح فيه القوى العظمى بتفوّقها العسكري.