علاء اليوسفي
رواية أحمد الواصل «سورة الرياض» (الفارابي)، عمل جديد يضاف إلى قائمة الأعمال الأدبية السعودية التي تتجرأ على المحظورات، وتغامر في كشف المسكوت عنه، في ظلمة الغرف الخلفيّة لمجتمع من عصر آخر. لكن الإيروسيّة لا تحتل هنا موقع الصدارة...


ينتمي أحمد الواصل إلى جيل من الروائيين الشباب السعوديين الناقمين على مجتمعهم بكل ما يحفل به من عقليّات متزمّتة وعصبيّات مترهلة. وفي روايته «سورة الرياض» الصادرة أخيراً عن «دار الفارابي» والحائزة جائزة «مؤسسة الصدى للصحافة والنشر 2005/2006» في الإمارات، ثمة مفاجأة لا تخلو من جرأة، وثيمة غير مسبوقة على صعيد الروايات السعودية. صحيح أنّ صبا الحرز كتبت قبله عن العلاقات المثلية في روايتها «الآخرون»، الا أنّ هذا الشاعر والناقد الموسيقي يتابع في باكورته «سورة الرياض» كسر التابوهات في مختلف الميادين من خلال تركي، بطل الرواية المثلي جنسياً الذي يعشق الرسم والتشكيل والنحت والتصوير الفوتوغرافي. لكنّ تركي يجد نفسه موظفاً في مستشفى يعبق برائحة المواد الكيماوية و«الوجوه التي لا وجوه لها». هل هي رواية فضائحية يحاول من خلالها الواصل تسلّق سلّم الشهرة عبر توسّل الجرأة؟
أحداث الرواية لا تشي بذلك. لكنها ليست عملاً إيروتيكياً بقدر ما تعرض حياة مثلي جنسياً، يفصح عن أفكاره ورؤاه أكثر مما يتوغل في هويته الجنسية، كما أنّه يركّز على الجانب العاطفي أكثر منه على الفعل الجنسي المجرّد. فالجانب الإنساني العاطفي هو ما دفع تركي إلى اتخاذ قرار بهجر حبيبه ناصر، ذلك «السطحي» الذي لم يكن يجمعه به سوى الجنس وبحث يائس عن حنان افتقده تركي داخل أسوار المنزل. فالرعاية الأسرية في بيئته تجسّدت فقط في الاهتمام بالمأكل والملبس والترهيب الأخلاقي، وهو ما دفعه إلى الهروب خارج منزل أهله. لكنّ تركي يكتشف أنّ علاقته بناصر سقيمة، وأنّه الطرف الخاضع فيها دائماً، ينقاد إليها كما لو أنّه عاجز عن اتخاذ أي قرار. وعلاوةً على ذلك، لم تُكلِّل تلك العلاقة أغنية مشتركة، أو وردة أو مكاناً أو حتى هدية. هكذا يجد تركي أنّها علاقة بلا لون ولا طعم إلى أن يلتقي إبراهيم الذي يظهر، قبل أن ينزوي مفسحاً المجال للسياق الاجتماعي النقدي في الرواية، ثم يعاود الظهور في الفصل الأخير منها.
شخصيتان رئيستان تتمحور حولهما الرواية وتدور الأحداث على لسانيهما: تركي، وسميرة زميلته في المستشفى. يجمع بينهما الفن، فهي أيضاً نحاتة ورسامة، يظهر تركي في حياتها ليعيد إحياء ذلك الشغف المكبوت طوعاً إلى مداعبة الريشة وخلط الألوان في مدينة لا تعترف إلا باللون الواحد. تلك هي الرياض التي تعاني سميرة من وطأتها... لوحاتها تعرّضت إلى التمزيق بحجة عدم جواز تصوير الذوات البشرية شرعاً، وزميلتها المتعصبة عائشة تنتقدها وزميلتها ثناء لعدم وضعهما غطاء الوجه.
هكذا يتناوب تركي وسميرة، كل من زاويته، على فضح محيطهما الاجتماعي وتعريته، يجمع بينهما توقٌ إلى الهروب نحو هوايات لم يجدا بعد منفذاً إليها.
تتولى سميرة تعرية الوجوه فيما لا يترك تركي شيئاً من السياسة والدين، وحتى التاريخ، إلا ويكشف النقاب عنه. سميرة ترى الوجوه مرايا، «هنا وجوه تحفظ زجاجها وأخرى تكسره، وهناك أجساد لا وجوه لها». تختفي وجوه زميلاتها عائشة وعزة ونجلاء خلف النقاب، فتقرّر سميرة أنّها ليست وجوهاً إنما عيون تحتقن المياه والدماء فيها فلا يبقى أي ملمح أو إيماءة. لكن ماذا عن وجوه الرجال المكشوفة؟ «إنها مكشوفة على عراء وجرود». هي لا تقول شيئاً بقدر ما تحاول الاحتماء من فضيحتها، وهي عارية من وجودها تختبئ خلف نظّارة طبية أو شمسية، لذا تراها تحاول تعويض الغياب باستحضار الشارب والخنجر والسكسوكة.
من خلال تركي وسميرة، تتفتق مظاهر الحياة الاجتماعية في الرياض عن أمراض تتخذ شكل عصبيات قبلية وأخرى دينية، وما بينهما غبار وطبيعة رتيبة تشبه ناسها. لذا ينساق أحمد الواصل تحت إغراء هذا التشابه إلى أنسنة الطبيعة أو يلجأ الى الإسقاطات. فكما الناس لون واحد كذلك الطبيعة «الأزهار نوع واحد وألوان باهتة، الطيور نوع واحد وأحجام تفتقر إلى ريش ملون...». وكما تتجمّع الوحول على أطراف السيارات والشوارع بعد المطر «هنا الناس كذلك. إذا انكشفت أقنعتهم تبدت لكثير منهم وحول أخلاق شوهاء ومتطحلبة على أنفسهم».
الا أنّ براعة أحمد الواصل في هذه الإسقاطات، لم تنسحب على صوغ جمله التي جاءت طويلة تفتقر إلى التنقيط. ولم تخلُ تعبيراته من شعرية، تكاد في كثير من الروايات السعودية أن تكون مبالغاً فيها. وهنا أيضاً، أتت الشعرية المفرطة على حساب السياق الروائي والبناء الفني للرواية مثلما في «سقف الكفاية» لمحمد حسن علوان. لكنّ الواصل استطاع أن يستثمر ثقافته التاريخية في خدمة عمله. إذ يعمد بطل الرواية تركي (وهو اسم شائع في السعودية) إلى كشف حقيقة اسمه الذي يعود إلى حملة إبراهيم باشا وابنه طمسون على مدينة نجد، يقودان جيشاً من الجنود الأتراك «الذين نكحوا نساءها». وهو بذلك فضح وهم النقاء القبلي، (ما زالت القبائل حتى اليوم وهي تشكل أغلب سكان نجد، ترفض تزويج بناتها إلا لقبَلي)... ويتابع الواصل على لسان تركي «مهما عاشت نجد في أوهام نقائها، فإن فيها من أحفاد لوّنتهم شهوات المردة والسعالي والغيلان... مهما كانت نجد خرساء ففي وجوه أهلها صحف تحمل وطء الزمن عليها».
يذكر أنّ أحمد الواصل أصدر عدداً من المجموعات شعرية هي «جموع أقنعة» (الكنوز الأدبية ـــ 2002)، «هشيم» (النهار ـــ 2003)، «مهلة الفزع» (الانتشار العربي ـــ 2005) و«تمائم» (الانتشار العربي ـــ 2007). أما الدراسات النقدية التي أصدرها في الموسيقى والغناء، فهي «الصوت والمعنى» (الفارابي ـــ 2003) و«سحارة الخليج» (الفارابي ـــ 2006).