strong>بيار أبي صعب
  • العائد من الجحيم... لم يجد خلاصه في الكتابة

    العائد من الجحيم... لم يجد خلاصه في الكتابة مرّت قبل أيام الذكرى العشرين لرحيل الكاتب الايطالي بريمو ليفي أحد أبرز الشهود على أهوال المحرقة النازيّة. كتب ليفي بدقّة، متجرّداً من الحقد، وحاول سبر أغوار الروح البشريّة عند ذروة الهمجيّة التي جسدها الـ «هولوكوست». ثم انتحر معلناً عجزه عن التطهّر من ذلك الماضي الثقيل

    كان ذلك قبل عشرين عاماً. خلال إجازة عيد الفصح... الفصح الكاثوليكي طبعاً، نحن في إيطاليا، في الشمال الإيطالي. ذلك اليوم، فتح الرجل الستيني باب شقته في إحدى عمارات مدينة تورينو، وقفز في الفراغ. ثلاثة طوابق، استقر في أدناها جثةً هامدةً فوق أرض «المَنور» . إنه بريمو ليفي الرجل الذي نزل إلى الجحيم ورأى، ثم عاد ليخبرنا. عاد ليشهد.
    هكذا استسلم الرجل أخيراً لفراغ نخره طويلاً. لكنّ بــــــــــــريمو ليفي الذي قرر أن يضع حدّاً لحياته ذات صباح من نيسان ١٩٨٧، كان قد مات قبل ذلك بزمن بعيد. قبل أربعة وأربعين عاماً بالتحديد. يوم دخل «أوشفيتز»، واكتـــــــــشف بأمّ عينــــــــيه تلاشي الإنسانيّة... لقد عــــــــــاش بجسده ووجــــــــــدانه فــــــظــــــــائع البربريّة النازيّة، في أشهر معســــــــــكرات الإبادة. كُتب له أن ينجو من المحرقــــــــة، فيـــــــــــــقف متفرّجاً على جحــــــــــافل البشـــــــــر تُساق إلى غـــــــــرف الغاز. وقد وصف لاحـــــــقاً آلية اختيار الضحايا، بدقـــــــــــة متناهية، في شهــــــــــادة تعتبر من كلاسيـــــــــــكيات أدب الذاكـــــــــــرة، ومـــــــــــن أهم الوثائق الحيّة على المحرقة: «أهذا هو الإنسان؟» (١٩٤٧).
    حين اعتقل عام ١٩٤٣، كان بريمو ليفي شاباً ناشطاً في إحدى شبكات مقاومة الفاشيّة، في إيطاليا التي كانت تبنّت منذ عام ١٩٣٨ قوانين عرقيّة معادية للسامية. اقتيد من معسكر إلى آخر وصولاً إلى «أوشفيتز»، حيث ابتسم له الحظ، إذا جاز التعبير. قرر النازيون الاستفادة من معارفه الكيميائيّة... فأُجبر على العمل في مختبرات المعسكر حيث كانت الحاجة ماسة إلى أمثاله في زمن الغازات السامة، والـ Zyklon B السيء الشهرة الذي كان يستعمل في أفران الموت. المشرف على العمليّات الدكتور فرديناد ماير كان «لطيفاً» معه على ما يبدو، حتى إنّه أعطاه حذاء. وسيعود الكاتب بعدها بسنوات عدّة إلى شخصيّة ماير الجلاد النازي الطيّب في «الجدول الدَوْري» (١٩٧٥).
    إذاً العلم أبقاه على قيد الحياة، حتى تحرير المعسكر على يد الجيش الروسي عام ١٩٤٥. عندها بدأ رحلة شائكة وطويلة ومضنية للعودة إلى إيطاليا. رحلة سيرويها في كتابه الثاني «الهدنة» (١٩٦٣) الذي شهره حقاً، وأعاد تسليط الضوء على كتابه الأول «أهذا هو الإنسان؟». لكن كيف يخرج المرء حيّاً من «أوشفيتز ـــ بركناو»؟ اعتبر أدورنو فيلسوف مدرسة فرانكفورت، أنّ «الكتابة غير ممكنة بعد أوشفيتز»... لكن ليفي أصبح كاتباً بعد عودته من معسكر الموت. قبل الكارثة (الترجمة الحرفيّة لكلمة «شوها»)، لم يكن هناك شيء في حياته يهيّئه لكي يكون كاتباً. لكنّه فكّر أن من واجبه أن يشهد، من واجب «الناجي» أن ينقل هول ما رأى للعالم، للأجيال المقبلة. منذ خروجه، فهم بريمو ليفي أن الإدلاء بشهادته شرط أساسي للبقاء على قيد الحياة: «كتبتُ فور عودتي كل ما شاهدته. كان عليّ التحرر من ذلك العبء. وشعرت أن الشهادة واجب أخلاقي وسياسي أيضاً».
    بريمو ليفي، الكيميائي الذي صار كاتباً... عاد بعد الحرب إلى العمل في مصنع للطلاء في ضواحي تورينو. صار مدير المعمل الذي لم يغادره حتّى سنّ التقاعد. وحين قصد الروائي الأميركي فيليب روث بريمو ليفي لمحاورته، كان أول ما طلبه هو زيارة ذاك المصنع. إنّه المكان الرمز، أو فضاء الهروب الدائم.
    يتساءل روث عن سرّ إصرار ليفي على العمل في مصنعه بعدما حقّق الشهرة، وكُرّس كأحد كبار كتّاب القرن العشرين. ربما لأن الكتابة لم تشفِه، بل ضاعفت معاناته. أو ربّما حسب صاحب «بورتنوي»، «من قبيل السعي الى استعادة إنسانيّته من طريق العمل، بعدما جرّده النازيون من أيّة كرامة أو صفة إنسانيّة». علماً أنّ الكيمياء والكتابة تتقاطعان، حتى التماهي أحياناً، في مسيرة بريمو ليفي. نلمس ذلك في التقنيات التي اعتمدها في نصّه، في تعاطيه مع اللغة، وفي العناصر التي استعارها أحياناً...
    «أهذا هو الإنسان؟» الذي يوثّق بدقّة للحياة اليومية في المعسكر، لم يوزّع لدى صدوره أكثر من ألفي نسخة. لم تكن إيطاليا جاهزة لمواجهة نفسها، ولم يكن العالم مستعداً للنظر الى ذلك الماضي القريب، الحارق. كان لا بد من الانتظار عشرين سنة للتحديق في فظائع النازية. وكانت «محاكمة نرورنبرغ» قد مرّت من هنا. صار الكتاب مرجعاً شهيراً، يدرّس في المناهج... علماً أنّ العرب لم يكتشفوا بعد بريمو ليفي، بما فيه الكفاية.
    يكتب ليفي في وصف معسكر الموت: «الناس هنا هياكل عظمية حية... أصبحوا كالقشرة الجوفاء، وما عادوا يشعرون بشيء، أو يعيشون أية معاناة. هل يجوز اعتبارهم أحياء؟ هل موتهم الآتي هو موت حقاً؟ لم يعودوا يخافون منه، فهم ليسوا قادرين على فهم المغزى من الموت بسبب الإنهاك». هل كانت الكتابة علاجاً نفسياً، تطهيرياً بالنسبة إلى الأديب الإيطالي الكبير؟ كلا على الأرجح، لقد كانت فضاء دائماً للمواجهة، للتذكّر، أي لاستعادة الكابوس.
    قبل كـــــــــل شيء، يحاول ليفي من خلال الكـــــــــــتابة أن يقــــــــــبل بـالأمر الواقع، أن يقــــــــــــتنع بما عاش وشاهد. وبعد ذلك يبدأ مشروعه في نقل شهادته إلى الآخرين... علماً أن مَن لم يعش أوشفيتز لا يسعه أن يفهم تماماً...
    ثم نصل إلى المستوى الثالث والأهم في مشــــــروع بريمو ليفي الأدبي، بعد الاستيعاب والشهادة: الناجون من جحيم المحرقة (مثل إيلي فايزل في كتابه «الليل»)، اكــــــــتفوا غالباً بالوصف. أما الكاتب الإيطالي فسعى إلى طرح أسئلة فلسفيّة وكونيّة حول الطبيعة البشريّة. عمل على سبر أغوار النفس البشريّة، على تفكيك آلية الهمجيّة، ليفهم كيف في وسع الإنسانيّة أن تصل إلى هذا الدرك من الانحطاط؟
    كتب من دون حقد أو مرارة، وفيما جيّر «شهود» آخرون تجربتهم في سبيل الترويج الوقح للمشروع الصهيوني، بقي ليفي في موقع أخلاقي وفكري محايد... بل إنّه اعترض على الاجتياح الإسرائيلي للبنان (١٩٨٢). وأصدر روايته التاريخيّة «الآن أو أبداً» التي تتطرّق للجرح الفلسطيني... وأصدر قبيل رحيله «الغرقى والناجون» في عزّ صعود الموجة «التحريفيّة» في أوروبا، الساعية إلى إنكار وجود المحرقة. هل ساهمت تلك الردّة في إزكاء يأسه، ودفعته الى الانتحار؟
    يذكّرنا ليفي بأنّ «الإهانة هي المنبع الأعظم للشر». فهي «تمزق أجساد المضطهدين وأرواحهم... وتنتشر كالوباء بين القامعين، وتكرس وجودها بين الناجين. وتنسج خيوطها بألف طريقة ضد رغبة الجميع، وتولّد العطش إلى الانتقام، وتؤدي إلى مختلف أشكال الانهيار الأخلاقي، والتنازل عن القيم الإنسانيّة». بريمو ليفي كاتب راهن بالنسبة إلى العرب، اليوم أكثر من أي وقت مضى...