القاهرة ــ محمد شعير
  • كلا، الرواية ليست حكراً على الفضاء المديني

    هناك سمات اختلاف بين محـمـد البساطي وكـتّاب الستينيات حتماً... لكنّ الأديب المصري الذي صدرت روايته «جوع» في القاهرة وبيروت، ينتمي بامتياز إلى هذا الجيل الذي تفتّح في ظل الحلم الناصري، وخرج منه بقناعات وخيبات، ليكتب صفحات أساسيّة في مسار الأدب الحديث

    الكتابة لدى محمد البساطي «متعة»... وأيضاً «وسيلة» للحماية! بدلاً من أن يصبح صاحب «صخب البحيرة» زعيم عصابة في قريته الصغيرة المطلّة على بحيرة المنزلة (شمال القاهرة)، أصبح كاتباً في القاهرة حيث أرسلته والدته وهو في الثانية عشرة، ليكمل تعليمه بعدما أُلقي القبض عليه أكثر من مرة بتهمة الشغب وتكسير زجاج قسم الشرطة، والقفز على أسطح الجيران، وتعكير السلم العام للقرية.
    يضحك البساطي وهو يتذكر تلك السنوات التي ما زالت «منبعاً» أساسياً لأدبه، إذ تنــــــــــــاولها في العديد من أعماله وآخرها روايته «جوع» التي صدرت حديثاً فى طبعتين بالتوازي عن «دار الآداب» اللبنانية ومؤسسة «أخبار اليوم» المصرية. «تشـــــــــــبّعت في سنواتي الأولى بجو القرية وناسها، بخاصة أنّني كنت رحالة عظيماً، كنت أترك منزلي مدةً طويلة وأستوطن إحدى الجزر، طعامنا السمك الذي نصطاده بأنــــــــــفسنا، بيـــــــنما يقوم أحد الصيادين بإمدادنا بالمياة العذبة. كل هذا جعل تجربـــــــــــتي في القرية ثريةً جداً. رأيت نماذج من النــــــــــاس أحنّ إليهم من حين إلى آخر. تظل شخصـــــــــياتهم وحكاياتهم تناوشني وأظل أقلبها على وجوهها المختلفة حتى أتحرّر من سطوتها بالكتابة».
    مرات قليلة تلك التي غادر فيها البساطي قريته، مستكشفاً عوالم المدينة: قاهرة الستينيات والسبعينيات حيث الحكايات السرية للمثقفين في «ليال أخرى»، والمدينة الأسطورية في «الخالدية»، والمدينة البين بين في «دق الطبول».... روايات المدينة يتعامل معها البساطي باعتبارها «مغامرة فنية»... معها «أبدو مثل شخص يخرج من بيته ليشاهد الدنيا لكنه يعود مرة أخرى». هل يقف البساطي فوق أرضيّة نقديّة مغايرة للطرح السائد حول الرواية، باعتبارها فنّاً مدينياً بامتياز تؤرخ لحياة الطبقة الوسطى؟ يقول: «هذه مقولة مشكوك في صحتها، لا مانع من أن تتناول الرواية حياة الطبقة الوسطى في المدينة، لكن ليس معنى هذا أنها تقتصر على حياة هذه الطبقة أو على المدينة. وقد يكمن هذا القول في أنّ حياة الطبقة الوسطى في المدينة كثيرة التناقضات، وبالتالي فهي حياة ثرية ومتنوعة وتغري بالكتابة».
    إذاًَ، يبحر البساطي عكس التيار. هوامش القرى هي ملعبه المفضل، وشخصياته تبدو كأنّها خارجة لتوها من مستوقد التجارب الإنسانية. هل هذا التزام أخلاقي؟ يجيب: «كلا بالتأكيد. لقد غادرت تماماً فكرة الالتزام الأخلاقي والسياسي». يشرح: «أنا لا أطرح مشاكل الريف بالمعنى الطبقي، مثل العلاقة بين الفلاح والإقطاعي، أو بين المالك والمستأجر، فهذه الأمور استهلكت في الكتابة. أنا أختار نماذج إنسانية أعبّر من خلالها عن الهمّ الإنساني العام، ويكون الاختيار دائماً من الفئات التي تعيش على أطراف الريف لأنها تعيش عالماً إنسانياً ثرياً من الحكايات والوقائع والثقافة الشعبية».
    لكنّه من جيل اعتبر السياسة التزاماً، فكيف تجاوز ذلك؟ يأتي جوابه قاطعاً: «منذ وقت طويل وأنا أعتبر أن مهمّة الكتابة ليست التثوير أو الحثّ على الأخلاق الحميدة». في الستينيات، كتب البساطي قصة «ابتسامة المدينة الرمادية» تحمل نقداً قوياً لعبد الناصر ودكتاتوريته: «كان جيلي ضد الثورة خصوصاً أنّها كانت شديدة البطش. كتبت هذه القصة من هذا المنطلق. ولكن فيما بعد تغيّر موقفنا. وهذا جعلني أرفض تماماً أن ينطلق الإبداع من مفاهيم سياسية، لأنّ مفهوم الإبداع أكبر من ذلك. ولكن في أعمالي الأولى ستجد المنطلق السياسي واضحاً».
    المفترق الحاسم في تغيّر مفهومه للكتابة، كان اكتشافه تشيخوف وتولستوي: «اكتشفت بأنّ كتاباتهما أعمق وأغنى بكثير من كتابات الذين جاؤوا بعد الثورة الروسية. ومعهما اكتشفت أن المنطلق السياسي يأتي دائماً مع احتساب العمل الفني، وأنّه يمكنك أن تدين اللحظة التي تعيش فيها عبر التركيز على الهمّ الاجتماعي». والمفترق الآخر الحاسم في عالم البساطي كان الإقامة في مدينة أسوان (جنوب مصر) عندما نُقل ليعمل هناك: «كنت في القاهرة أتهيّب الإقدام على كتابة الرواية. كانت القصة القصيرة أنسب، لأننا نستطيع من خلالها أن نلاحق الأحداث، كما يمكننا أن نعرف آراء النقاد بشكل أسرع. في أسوان وجدت نفسي في عزلة، لا صحف ولا أصدقاء. قلت لأنتهز هذا الموت الكامل وأكتب رواية. هكذا، كتبت «التاجر والنقاش»، وبعدها أدركتُ أن كتابة الرواية ليست أمراً شاقاً كما كنت أتصور».
    لكنّ «التاجر والنقاش» حملت أيضاً إدانةً لنظام عبد الناصر ولم تكن فناً خالصاً؟ يوضح البساطي «ظللنا على خلاف مع ثورة يوليو، حتى جاء السادات إلى الحكم، وقتها فقط قلنا «فينك يا عبد الناصر»». يضحك قبل أن يواصل: «كان موقفنا من الثورة ينبع من منطلق كيفية تولّي العسكر الحكم. لكن كانت للثورة إنجازات جوهرية تلاقت فيها مع مطالب اليسار من الإصلاح الزراعي، وبناء السد العالي، والاستقلال، وإنجازات أخرى كثيرة. أكيد، كان هناك أيضاً طغيان واستبداد واعتماد على أهل الثقة. وقلنا ربما بالتجربة سيتغير الأمر. وعندما تولى السادات الحكم، ترحّمنا على عبد الناصر. وبعد أربعين سنة من الفساد والتدهور، لازم نقول أيام عبد الناصر «جنة»».
    ربما يكون البساطي الكاتب الوحيد في جيل الستينيات الذي لم ينضم إلى أي تنظيم سياسي (فوق الأرض أو تحتها)، على رغم أواصر الصداقة التي ربطته بمعظم رموز هذا الجيل المسيّس. وهو ما يفسره «أؤمن بأنّ الكاتب ينبغي أن يكون حراً، لا يتقيّد بأفكار ورؤى تنظيم ما». لكن ألم يحاول أحد من أصدقاء البساطي إقناعه بالانضمام معه إلى أي تنظيم؟ «لم يكن لأي من أصدقائي علاقات بتنظيمات غير شرعية حتى يدعونني إليها».
    بدا البساطي مراوغاً في الحديث عن هذه المنطقة التي خصّص لها روايته «ليال أخرى». ألم يحاول الروائي يحيى الطاهر أحد أقرب الأصدقاء إلى البساطي أن يدعوه إلى أي تنظيم من تنظيماته؟ يضحك «التنظيم الوحيد الذي التحق به يحيى الطاهر هو تنظيم الشارع!»، ويضيف: «عرفت اثنين من «بتوع» التنظيمات. غالب هلسا وإبراهيم فتحي. استفدت منهما في معرفة الكتب التي ينبغي أن أقرأها، فقرأت ماركس وإنغلز وآخرين... أما نقاشاتهما، فكانت تثير الضحك».