حسين بن حمزة
بعد مجموعته الثالثة «خذ الكتاب بقوة» (1994)، انقطع يحيى جابر عن الشعر. اشتغل في المسرح والصحافة الفنية. سمَّى نفسه شاعراً سابقاً. لكن ها هو ينشر مجموعة رابعة بعنوان «كأنني امرأة مطلقة» (دار النهضة العربية)، معلناً عودته كلاعب معتزل حنّ طويلاً إلى ملعبه وجمهوره.
يبدو أنّ الحب هو ما أعاد جابر إلى الشعر. ثمة أسباب أخرى بالطبع. لكنّ احتلال الحب ومشاغله لكل قصائد مجموعته الجديدة، يسمح للقارئ بأن يفكر بالحب كمبرر أساسي لهذه الكتابة. على أي حال، هي كتابة لا تكتفي بتأريخ وقائع الحب، بل تحتفل به وتدوّن يومياته، وتلاحق أصغر تفصيل فيه. حتى إن الشاعر يكتب بعض التفاصيل التي يحسب القراء، والشعراء أيضاً، أنّها لا تصلح للشعر.
لعل السبب عائد إلى أنّ يحيى جابر لا يكترث بنقل ما يعيشه إلى حيز نصّيّ. إنه لا يُخضع وقائع التجربة إلى كتابة ثانية. ليس المقصود هنا أن يُنقح الشاعر ما يكتبه، المقصود أنّ هذه الكتابة قائمة أساساً على فكرة استبعاد ما هو أدبي أو نصي بالمعنى التقليدي لهذين المصطلحين. ولعل ميل جابر نفسه إلى إفساح المجال للهو واللعب والمشاغبة بالتسلل إلى كتابته، يبعد هذه الكتابة، أكثر فأكثر، عن أي أدبية مفترضة.
وإذا شئنا الدقة، سنقول إنّ اللهو لا يتسلل إلى الكتابة، بل يكاد اللهو يُشكّل مزاج الكتابة ذاتها. هناك خفة ولعب في نبرة جابر وجملته. كأنه يكتب الشعر باستبعاد شعرية جاهزة أو مسبقة أو متوقعة.
الشعر، بهذا المعنى، يتحقق في التساوي شبه الكامل بين تجربة العيش وتجربة الكتابة. قصائد الكتاب تكاد تكون ترجمة حرفية لوقائع وأفكار وتأملات وخسارات حدثت فعلاً أو هي في طريقها إلى الحدوث. قصائد متخفّفة من الحمولة الأدبية، لمصلحة ممارسة تخلط العيش بالكتابة.
تُوصف هذه الكتابة عادةً بالشفهية واليومية، وشعرية التفاصيل والمهملات. الأرجح أن يحيى جابر يتجاوز هذا الوصف إلى ما هو أكثر يومية وشفهية من اليومي والشفهي معاً. فهو لا يتوانى عن استخدام أي كلمة وأي حدث. لا يكترث إن تسربت إلى قصيدته كلمات يستبعدها الشعراء عادة من الشعر، فيكتب: قطايف، كعكة العصرونية، قشوة، شو في ، شو بكِ.... «لا يهمني رضى سيبويه» يقول الشاعر، ويُضيف: «وإن تململ الفراهيدي في قبره/ آخر همّي». ثم يستنجد ببيت قديم من الشعر ليستخدم معناه بما يتناسب مع جملته ذات النكهة الواقعية المفرطة التي تنزل إلى حدود العامية أحياناً: «أحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري/ وتحب سيارتها «الهوندا» سيارتي «نيسان»/ حولنا لهاث زجاجي/ دخان من أشبمانات الشتاء/ هذا حب... صنع في اليابان».