strong>«قصر الأونيسكو» في بيروت معتاد على المناسبات الاستثنائية. لكنّ الحفلة التي يحتضنها المسرح الشهير هذا المساء (وغداً) هي على الأرجح خارج كل تصنيف. زياد الرحباني على موعد مع جمهوره، في لقاء خاص ونادر. و«أوركسترا ييريفان» هي التي تشاركه في عزف مؤلفاته.DA CAPPO استعدوا للمفاجآت!كان ذلك منذ 12 سنة، وتحديداً بعيد صدور ألبومه «بما إنّو» (1995). يومها، أعلن زياد الرحباني في مقابلة تلفزيونية (تلفزيون لبنان) عن خسارة تثقل كاهليه ويضنيه هاجسها. على مشارف الأربعين، اعترف زياد «الموسيقي» بغصّة وحسرة: «... الموسيقى لا تُعوّض».
جاءت هذه العبارة في سياق كلامه على الوقت والعمر والفنّ... والبلد. إذاً، يمكننا أن نعيد صياغة عبارة زياد لتصبح أكثر وضوحاً وقسوةً: الموسيقى التي لم يكتبها زياد، في وقت كان يحاول فيه توعية أجيال الطوائف، وتفكيك عبثية الحرب اللبنانية، وتظهيرها بالشكل الأبسط من خلال الأعمال المسرحية والبرامج الإذاعية، هذه الموسيقى هي التي «لا تُعوّض». ولو أنّ هذه الأجيال أبدت أدنى استعداد لفهم عدم جدوى الطائفية (على سبيل المثال)، لما شعر زياد بخسارة الموسيقى التي ربطها «وجودياً» بالوقت، أو بمعنى أدق، بضياع الوقت.
ولعلّ وَقْع اعتراف زياد على محبّي الموسيقى في لبنان يوازي حجم الأسف التاريخي في عالم الموسيقى على رحيل موزار المبكر (35 سنة). وهنا لا نبالغ في المقارنة، إذا ما تناولنا الموضوع من باب النسبية. فنحن خسرنا جزءاً من هذا المشروع الأكثر جديّةً وتفانياً وجمالاً في موسيقانا العربية. ومع كلّ إطلالة لزياد ـــ سواء في الحفلات أو الأسطوانات ـــ تخفّ وطأة هذه الخسارة علينا قليلاً...
اليوم وغداً، نحن على موعد مع زياد الرحباني وأوركسترا مدينة ييريفان الأرمنية. انتظرنا هذا اللقاء طويلاً. إذ إنّ زياد مجحف في إطلالاته الموسيقية، وخصوصاً تلك الخالية من ضجيج النوادي الليلية، وأحاديث روّادها التي لا تؤجَّل... طال انتظارنا مذ تركنا زياد في بعقلين وأنفة عام 2004، حين قدّم مع فرقته المحلية ستّ حفلات لم يتخلّلها جديد على صعيد الأغنيات والمقطوعات الموسيقية التي ضمّها البرنامج آنذاك، فاقتصر اللقاء على بعض التعديلات على مستوى التوزيع الموسيقي.
ولعلّ حفلتي «الأونيسكو» تكتسيان أهميةً خاصة، تميّزهما عن كلّ الحفلات التي قدّمها زياد منذ «البيكاديللي» و«لاس ساليناس» عام 1998، وما تبعتها من حفلات في الجامعة الأميركية (قُدِّمت الحفلة يومذاك من دون زياد الذي مُنع من الدخول!) و«فوروم دو بيروت» و«مون لاسال» (مع غسان الرحباني بعيد صدور «مونودوز»)، و«الأونيسكو» (في الذكرى الثمانين لتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني)... وصولاً إلى جولة الـ 2004. تكمن هذه الأهمية في أمور شكليّة، كالحملة الإعلانية المتقنة، وأخرى جوهريّة كمشاركة أعضاء من أوركسترا ييريفان (إذا استثنينا حفلات فيروز في بيت الدين 2000 ـــ 2003 التي تشكّل ربّما المشروع الموسيقي الأهمّ لزياد).
والأهم من كل ذلك، أنّ حفلتَي هذا المساء والغد في بيروت، ستخففان من حدّة تأسّف زياد على الموسيقى الضائعة، إذا أضفناهما الى رصيده على صعيد الألبومات تحديداً، منذ أواسط التسعينيات: «بما إنو» (جوزيف صقر ـــ 1995)، «مش كاين هيك تكون» (فيروز ـــ 1999)، «مونودوز» (سلمى ـــ 2001) و«معلومات أكيدة» (لطيفة ـــ 2006). يحمل الحدث عنوان DA CAPPO (عبارة إيطالية تستعمل في التدوين الموسيقي، وتعني وجوب إعادة جملة موسيقية ما)، وهو يشبه في تركيبة الفرقة الموسيقية، حفلة زياد في أبو ظبي التي أقيمت في كانون الثاني (يناير) 2005 وحملت العنوان نفسه.
زياد منع تسرب أي معلومات عن برنامج الحفلة، حتى لزملائه في «الأخبار». ما يغري بلعبة افتراضيّة، قائمة على التوقّعات والمراهنات، وهي بحد ذاتها ذريعة مناسبة لاستعادة مساره الموسيقي عبر أندر محطاته. ستضمّ الفرقة أعضاء من Yerevan Orkestra، وتحديداً عائلة النحاسيات فيها (Brass)، أي آلات الساكسوفون والتروبيت والترومبون (والهورن أيضاً على الأرجح)، وآلات نفخ أخرى وعازف كونترباص، إضافة إلى موسيقيين من لبنان كنضال أبو سمرا (تينور ساكس)، وفؤاد عفرا (إيقاعات)، وخضر بدران (كيبورد)، وآفو توتنجيان (ألتو ساكس)، ووليد ناصر (إيقاعات شرقية)، ورافي مندليان (غيتار كهربائي)، وهنادي توتنجي (فلوت و/أو بيكولو)، وزياد طبعاً على البيانو والكيبورد، من دون أن ننسى الكورس. ومن سوريا، يشارك الموسيقيون باسل داوود (عود)، ورأفت بوحمدان (بزق)، ونزار حمدان (ترومبيت)، وفراس شهرستان (قانون). كما يحضر أيضاً عازف الدرامز الهولندي أرنو الذي كانت له مشاركات لافـتة مع زياد في «مونودوز» و«ولا كيف»... وكيف ننسى حضوره «الملكي» في بيت الدين مع فيروز؟
أما الغائب الأكبر عن أمسية هذا المساء، فعائلة الوتريات التي كان من شأن حضورها أن يضع الحدث في المرتبة الأولى بين حفلات الرحباني الإبن حتى الآن... وهذا حلم لطالما راود متذوّقي الموسيقى الحقيقيّين في لبنان منذ بيت الدين 2000. هذا الغياب الذي ربّما يُستعاض عنه أحياناً بالكيبورد، سيؤدي من جهة أخرى الى التكهّن السهل بعدم تقديم بعض روائع زياد غير الممكنة من دون وتريات، وبينها ــــ في أبسط إحصاء للخسارة ــــ «مقدمة 83» و«مقدمة 87» وموسيقى «تدمر»... لكنّ التركيبة التي اعتمدها، قد ترجّح كفّة مقطوعات أخرى في اللقاء مثل «هدوء نسبي» و«أمراض مزمنة داخلية» و«وصّله عَ بيته»...
وربما كانت هناك مفاجآت أخرى. هل أدرج زياد في البرنامج المقدّمة الموسيقية الأولى لمسرحية «لولا فسحة الأمل»، التي نتوقّعها كلّما أعلن عن حفلة هنا أو هناك؟ إذ كان مقرّراً أن يقدّمها مع فرقة موسيقى الجيش اللبناني في «انتظارات الشباب» في إنطلياس، أواسط التسعينيات... لكنّ الحفلة ألغيت يومها قبل دقائق من بدئها. ومنذ ذلك الحين، لم نسمع هذه المقطوعة في عزف حيّ في لبنان، على عكس المقدمة الموسيقية الثانية للمسرحية التي سمعناها أكثر من مرّة. نفد صبرنا ولم تأت المقدمة التي عزفها زياد، بعيداً من بيروت، في إحدى حفلاته في فرنسا. لذا، يبدو احتمال ورودها في برنامج الليلة كبيراً جداً، ولا سيما أنّ تركيبة الفرقة تبدو مثاليّة لتقديمها هذه المرّة.
أخيراً، في الإعلان الذي تبثه إذاعة «صوت الشعب» عنDA CAPPO، يقول زياد بصوته: «... وفي عايشة وحدها بَلاك؟» في إشارة إلى النوستالجيين الذين ينتظرون كلاسيكيّات الأغنيات فقط في عزف حي. وزياد «يكره الحنين» على حد تعبيره، ونحن (أو بعضنا) نكره الحنين أيضاً، وننتظر الجديد من فسحة أملنا الموسيقية في هذا البلد. لذا، نتوقع من هذا اللقاء مقطوعات لم نسمعها من قبل. هذا في أفضل الأحوال، أما في أسوئها، فلنستمع إلى أعمال أخرى لم تُقدَّم حتى اليوم في حفلة حيّة... وكل ما خلا ذلك لن يسدّ جوعنا، إلا ما قد يأتي توزيعه الموسيقي معدّلاً بشكل جذري.

زياد الرحباني وأوركسترا ييريفان ـــــ 30 و31 أيار (مايو)، قصر الأونيسكو: 01/759567