حسين بن حمزة
عاش بين مدن وتجارب كثيرة، أغنت مخزونه الشعري. إنّه عشير الأباطرة، وخليل الموج المتدفّق كنصّه. في مجموعته الجديدة (دار النهضة العربية)، يضرب الشاعر العُماني عرض الحائط بقواعد الكثافة والإيجاز، ويستسلم للغة ومشهديتها الشاسعة

أول ما يلاحظه القارئ لدى ولوجه مجموعة سيف الرحبي الجديدة «سألقي التحية على قراصنة ينتظرون الإعصار» (دار النهضة العربية) هو المساحة الواسعة التي تتحرّك فيها جملته الشعرية. ثمة رغبة جارفة لدى هذا الشاعر العُماني، في قول الأشياء والأفكار والموضوعات وفق رؤيا شاملة ولامتناهية. هناك مشهدية كونية في هذه الكتابة. الشاعر لا يضع حدوداً للعالم، ولا يختزله أو يكثفه. الاختزال والتكثيف هما الشرطان الأكثر حضوراً في الشعر. النقاد أنفسهم يطالبون الشعراء بالكثافة والإيجاز. على الشاعر، بهذا المعنى، أن يستخدم القليل من الكلام لابتكار الكثير من الدلالات.
لكن يبدو أنّ سيف الرحبي لا يهمّه كثيراً أن يتقيد بشروط الكثافة والإيجاز. إنه لا يتفرّد في هذا النوع من الممارسة النصية. هناك شعراء غيره يفعلون ذلك. لعلّ من المناسب القول إنّ الرحبي يكتب نصاً شعرياً... لا قصيدة!
الممارسة النصية، تعني أنّ مصطلح «النص» أكثر اتساعاً وتعدّدية أسلوبية من مصطلح «القصيدة». لنقل إن النص يشتمل على ما تتطلبه القصيدة، وعلى ما يتجاوز هذا التطلّب أيضاً. ما يكتبه الشاعر في النص هو أكثر من قصيدة. هذا التوصيف لا يغيّر جوهر الكتابة الشعرية. إنه توصيف إجرائي وليس حكم قيمة.
ثمة شعرية في «القصيدة» وشعرية في «النص». الفارق موجود في طريقة بناء الجملة، ومدى الحذف والاقتصاد الذي تتعرّض له هذه الجملة ونوعية الاستعارات والكيفيات التي يستخدمها الشاعر في إنجاز عمله الشعري. إنه عمل شعري سواء كان قصيدة قصيرة ومضغوطة ومكثفة، أو كان نصاً طويلاً يقوم على حركة واسعة ومـــــــتدفـقة ومتعددة للمعاني والصور.
لعلّ هذا الإجراء يشكل مفتاحاً أو تمهيداً لقراءة مجموعة سيف الرحبي، ففي القصائد/النصوص الثلاثة التي تضمّها المجموعة، لا يتأخر القارئ في اكتشاف البنية النصّية القائمة على مساحات معجمية وحياتية شاسعة. يتبدى ذلك في استخدام جملة ذات نفس لغوي طويل وحاشد. جملة متدفقة وسيّالة لا تتوانى عن الاستطراد الذي يؤدي إلى توسيع رقعة المعنى. اللافت أنّ جملة سيف الرحبي، باستثناء حالات قليلة، لا تضعف بالاستطراد والسيولة والاتساع.
هذه الصفات التي تتجنّبها القصيدة القصيرة تتحول هنا إلى خصال بنيوية لنص شعري يأخذ فيه الشاعر راحته في إنجازه. هذا يعني أن الاستطراد الذي غالباً ما يُعتبر عيباً في الشعر، قد لا يكون سوى تمديد للكثافة، الكثافة وقد خضعت لتوسيع في مادتها الأساسية. الاستطراد يحضر هنا بوصفه جزءاً من نسيج النص الشعري، وعلى القارئ أن يحكم على نجاح الــــــشاعر أو فشله في ذلك.
لا يخفي سيف الرحبي المشهد الواسع الذي تتحرّك فيه جملته وطموحاته ومقاصده، بل يدعو القارئ إلى مشاركته التجوال في هذا المشهد. إنه يُعدي القارئ الذي سرعان ما يعثر على قراءة ملائمة للنص. لكن من أين تغرف جملة الرحبي سيولتها وحشودها المعجمية؟ وبأي مهارة يُدخل تفاصيل المشهد الواسع في هذه الجملة؟
القارئ لا يتأخر في تلقّي الإجابة. في مستهل القصيدة الأولى، التي تحمل عنوان المجموعة نـــــفــــسها.
يكشف الشاعر عن ملامح كونية تذكّرنا بتكوين العالم في الأسفار الدينية القديمة: «في غبش المرآة الغابيّة/ ألمح الصورة/ تلك التي لمحها الجدّ الأول/ قبل أن يدبّ على هذه الأرض/ ألمح منصات النيازك قبل الانطلاق/ في سماء جرداء قاحلة/ بيضة النسر الأول/ قبل أن تحلّق ذرّيته باتجاه الأعالي/ ألمح الجنين الذي كنتُه/ قبل أن يخرج ملبّداً بالأغشية والصراخ/ في المستنقعات الموزية الآسنة».
الواقع أن بداية كهذه توحي بنص تصاعدي مفتوح على أساليب ونبرات ومشهديات عدّة. إنها بداية تُشعر القارئ بأن الخاتمة بعيدة، وأن تطورات كثيرة ستحدث قبل أن تأتي هذه الخاتــــمــــــة المفترضة.
في نص كهذا، لن يكون مستغرباً أن نجد أسئلة مباشرة وشديدة الواقعية: «هذا هو الوطن العربي التائه/ بين خرائط ومسافات/ أي لعنة مخبأة بين ضلوعنا/ أي صرخة يتسلّقها جوعى ومقاتلون/ في حروب عبثية». وأن نجد، في المقابل، مقاطع تطمح إلى كتابة شعرية صافية: «الموج يتدافع أمامي/ بغيوبه وزبده/ كقطيع كباش بيضاء فاجأها الهياج». ثمة رغبة في إنجاز مقاطع مستقلة تتشابه في بنيتها مع خصائص القصيدة القصيرة، لكنّ الشاعر يكتبها بالمواد عينها التي يُنجز بها نصه المحتشد بالمفردات الكونية أو الصور ذات الدلالات الواسعة. إنها قصائد قصيرة، لكنّها مكتوبة بالنَّفَس الشعري المتدفق والحاشد نفسه.
حتى حين ترد مفردة تحمل معنى محدداً، فهي لا تنجو من هذا المصير، كما هي الحال في كلمة «قبلة» التي ما إن تُذكر حتى يليها السديم والطحالب والشهب والليل: «أتذكر قبلة البارحة/ وسط سديم النوم والنبات المعرّش في المياه/ أشجار الموز الغارقة في الطحالب والنعاس/ حيث تتهاوى الشُّهب/ في ليل غامض/ على صفحته يتنزّه ماعز الجبل/ متبوعاً بصراخ الرعيان».
والحال أنّ المجموعة تكتظّ بهذا النوع من المفردات والتراكيب اللغوية: أباطرة العدم، أساطير الطوفان، أجداث القراصنة، المفازات، السلالة الشجرية، معترك الهاجرة، عباب المحيط.... إنّها مفردات تخلق مزاجاً رؤيوياً للشاعر، وتجعل من إطلاق صفة «النص» تصرفاً نقدياً يتلاءم، إلى حد كبير، مع الروح المتدفقة والمشهدية الشاسعة لهذه الكتابة.