strong>عبد الغني طليس
كانت أغنية. أغنية واحدة فقط، أرادت من خلالها يسرا أن تقول شيئاً لا تستطيع ربما أن تعبّر عنه في التمثيل، أو تبحث عبره عن تأثير أسرع وأقوى (ثلاث أو أربع دقائق) مما كانت ستحققه في فيلم واحد أو مسلسل طويل المدى. خاضت التجربة، وسجلت في الاستوديو أغنية «حب... خلي الناس تحب». ومع الأطفال، صورت فيديو كليب كانت له أصداء إيجابية واسعة، رشّحت يسرا للدخول إلى جنة الغناء بعد جنة التمثيل.
لم يكن صوت يسرا صالحاً أصلاً للغناء. كان، ولا يزال قادراً على إيصال فكرة معينة بأكبر قدر من الاجتهاد الأدائي من دون وهن أو تكسير نوتات موسيقية. لا أكثر ولا أقل. وبهذا القدر من الموهبة البسيطة، تمكنت الممثلة العربية ذات التجربة الساطعة من تقديم نفسها في الغناء بشكل أضاف فعلاً اليها نكهة تشي بأنها ليست ممن يحبون اللحاق بالموضة. هي فنانة تحسب، عبر التقييم الفعلي للإمكانات، ألف حساب لما تفعل. من هنا، جاءت أغنية “حب” نشيداً إنسانياً نبيلاً في مبناه ومعناه. ومن هنا أيضاً، قررت يسرا عدم خوض التجربة من جديد، خشية التكرار أو الفشل أو حتى الاستسلام لإغراء لقب المغنية، أو ربما لعدم الحصول على أغنية من المستوى ذاته حتى الآن.
قالت يسرا كلمة في الغناء، ثم عادت إلى مواقعها سالمة غانمة. سالمة لأن الأغنية كانت معركة غير مسموح الفشل فيها، وقد نجحت بمقاييس فنية عدة. وغانمة لأن الرصيد الشعبي والفني و“الإنساني” الذي حققته شكّل بالنسبة إليها إضافة متميزة.
كل هذا الكلام، للقول إن ممثلة صادقة مع نفسها، تملك قدرة معينة في الأداء الغنائي (محدودة لكن نقية)، استطاعت طرح موضوع فني إنساني اجتماعي كبير هو الحب بين البشر. وقدمته في قالب شعري مسكوب برقة، وقالب لحني عارف بالقدرات الصوتية. وكانت نتيجته إبداعية، بإنتاج غير فضفاض (وهذا مهم جداً)... في وقت لا يلتفت فيه المحترفون شعراً وتلحيناً وغناءً وإنتاجاً أسطورياً إلا إلى طرح المواضيع العاطفية التقليدية التي تكرر الماضي و“تعيد” الحاضر وتهرق ماء وجه المستقبل، وتغرق الأذن العربية في مستنقع لا فكاك من البلل الذي تحدثه، وبعضه موحل جداً.
لا أحد يريد من شركات الإنتاج الغنائي أن تتحول من التجارة إلى التعامل السامي الخالي من الربح، ولا أن تقفل أبوابها وتفتح جمعيات للرفق... بالإنسان. ولا حتى أن توقف ذلك المشاع المترامي الأطراف لمن هبّ ودبّ. بل في الإمكان تحويل جزء من الإنتاج إلى حيث العمل الفني ذو الربح المعنوي بدلاً من أن يذهب كله إلى العمل الغني ذي الربح في العلاقات العامة و“الخاصة”. وثمة في المتناول أيضاً دفع بعض الفنانين المنضمين إلى تلك الشركات العملاقة إلى اجتراح أفكار غنائية مختلفة تبحث عن المعاني السامية في مواضيع الغناء بدلاً من أن يتسابقوا إلى اجترار الأفكار وإعادة إنتاجها بالأدوات السيئة نفسها. وهناك فنانون يمكن أن يكونوا نواة صالحة لهذا البناء الفني من نجوم تلك الشركات الإنتاجية نفسها، وبعضهم يدعي أنه يحاول إقناع القيمين عليها، ولا يوفق.
هل رأت يسرا، عندما قررت أداء أغنية “حب”، أبعد بكثير مما يرى المغنون والمغنيات المنشغلون بتقديم ما ينفع الخصور والأقدام والصراخ الراقص؟! وهل الاحتراف في الغناء يجعل الأغلبية تطلب الخطأ الشائع لأنه قد يبدو خيراً من الصحيح المستهجن؟ وهل يسمع كاظم الساهر وأصالة وشيرين مثلاً، وهم من أصحاب الأصوات الجميلة، هذا الكلام؟