إبراهيم حيدر
يتنقل رياض الريّس، في كتابه الجديد، بين الأندلس واليمن السعيد، مروراً بسمرقند وزنجبار. الصحافي والكاتب المخضرم يستنطق التاريخ، بهدف التواصل مع اللحظة الراهنة. سجلّ نصف قرن من الأسفار بين أمجاد الزمن الغابر، وعبء القضايا الخاسرة

لا يستكين رياض نجيب الريس ولا يهدأ. يكتب سيرة أسفار سياسية بامتياز. لا يرتاح من السفر حتى في الكتابة. في موسوعته الجديدة، سيرة صحافي يجوب طرق العالم. يكتب في الحاضر عن رحلات الماضي، فلا يستطيع الهرب من التاريخ.
«الجانب الآخر للتاريخ ـــ أسفار صحافي في طرق العالم»، عنوان كتاب رياض نجيب الريس (دار الريس)، يجمع فيه أسفاره من خلال سلسلة موثقة لرحلاته في عدد من بلدان آسيا وأفريقيا الملتهبة بالثورات والنزاعات والحروب طيلة نصف قرن. تحمل هذه الأسفار التي نشرت حكايات في عدد من الصحف اللبنانية والعربية، تقويماً سياسياً لمراحل ومحطات خاسرة. وتكتنف وقوفاً على أطلال قلاع أثرية وفي ساحات ثورات مجهضة، مرّ بها هذا الصحافي خلال انتقاله من مكان الى لا مكان.
لا تخرج سيرة أسفاره «في الجانب الآخر للتاريخ» عن سياق كتبه السابقة، لكنّها تحمل في طياتها الكثير من المعاني السياسية بأسئلتها وشواهدها وسجالاتها وصورها، في القضايا التي ننظر اليها اليوم بعدما جفّت ينابيعها ومات نخيلها. العالم لم يعد رحباً ويفتقد نكهة الاكتشاف التي خبرها الريس طيلة نصف قرن.
تدخل الصورة للمرة الأولى بين كتابات الريس. هو يقول إنّ الصور جاءت مصادفة، الا أنها تضيف إلى روايات الأسفار بعداً آخر. إذ تشحذ الذاكرة والمخيّلة من جديد في أهميتها التاريخية، على إثر التغيرات الهائلة التي شهدتها دول آسيا وأفريقيا ودول الخليج، فبدت كأنها بلاد جديدة لا علاقة لها بالسابق، من حيث الشكل على الأقل.
تحار من أين تبدأ مع أسفار الريس، هو يجمع أوراقه التاريخية بصيغة الحاضر. كأن الروايات التي يتضمنها الكتاب تنقل سيرة أسفار حصلت بالأمس. يسأل ما الذي حصل لليمن إبان صراع المشيخات وبين الجنوب والشمال؟ هل فتحت الدروب المقفلة حقاً؟ وما الذي تمخضت عنه ثورة اليمن؟ اليمنيون يحبّون أن يتزينوا بالأشياء الملونة البرّاقة. فالأفكار التي مرت براقّة، لكنّها لا تدخل قلوبهم، على رغم أنّ الوحدة اليمنية كانت حديث مدينة تعز، وفي عدن كانت وحدة التراب اليمني شعاراً دائماً. لكنّ الوقت في صنعاء يحمل تساؤلات كثيرة. أما الدويلات والمشيخات والسلطنات فلكل منها رواية خاصة.
طريق اللؤلؤ والنفط شاقّة. والبحرين كانت أقدم دول الخليج في مجال النفط. كانت المدارس والمستشفيات والطرق... والزراعة. لكنّ مشكلاتها أكبر منها، بين الهجرة الايرانية وتطلّعاتها وبين الاندفاعة البريطانية. وعلى رغم أنّ المنامة كانت تنام باكراً، الا أنّ مقاهيها ومطاعمها الشعبية تبقى تضج بالحركة.
يروي الريس بعض محطات أبو ظبي بين الشيخ شخبوط الذي اغتال اخوانه وأقرباءه، وبين الشيخ زايد الذي بدأ سباقاً مع الزمن للحاق بما فات الامارة. ويلفتك الحديث الصحافي الأول لزايد مع الريس الذي يشهد النهضة الأولى لدبي. لكنّه يبقى عالماً قديماً سبقه التاريخ، فأصبح قدره اللحاق به.
كل ما في عمان تاريخ. وعمان تاريخ أمجاد وذل متواصل عبر ثلاثة قرون. هي «قدمٌ في الجزيرة العربية وأخرى في الهند». ومع القيود التي كانت مفروضة على العمانيين، دخلت تلك البلاد في غيبوبة لم تستطع الخروج منها لاستعادة مجد الدولة الشاسعة العريضة التي امتد نفوذها يوماً من بحيرات افريقيا الوسطى حتى مشارف شبه القارة الآسيوية شرقاً. لكن المستقبل لا يزال رهن الماضي. أما ظفار التي تختلف عن عمان، فلها قصة أخرى مع رياض الريس.
وفي رحلته الى سمرقند التي يحب الريس أن يتحدث عنها مطولاً، يميز بين كتابته الصحافية عن هذه البلاد، وبين روائية أمين معلوف. سمرقند الاسم الغارق في التاريخ، طريق القوافل في آسيا الوسطى توقّف الزمان فيها من غير رجعة، بعدما بنى فيها تيمورلنك سوراً عظيماً. ومع بخارى، يبقى التاريخ يعبق برائحة خاصة.
يعيدك رياض الريس الى أمجاد الأندلس. لكنّه يوقظك على القضايا الخاسرة. من غرناطة التي يجول فيها بصفته عربياً دمشقياً قادماً من أعماق التاريخ الأموي الى بقايا أمجاد العرب في الأندلس، يكتشف كم أوهنت الضربات التي جاءت من الخارج تراثها الجميل. وفي قرطبة يشد رحاله للعودة هرباً من أعمدة الوهم للعز العربي. فهل غزا العرب الأندلس بقوة السلاح أم بقوة الأفكار؟
يختم رياض نجيب الريس أسفاره في الأندلس بمراكش، وينتقل الى طريق التوابل والرقيق. يبدأ من إثيوبيا ـــ قرن افريقيا. يلاحظ حداثة أديس أبابا في أقدم الأمبراطوريات على وجه الأرض. أما في الصومال، فالشعر سيد المواقف دائماً، والمرأة لها موقعها حين كانت البلاد منفتحة على العالم الخارجي، قبل أن تأكلها نيران القبائل ونزاعاتها.
بين المدن التي يتوقف فيها الريس، زنجبار المسكونة بأشباح التاريخ. وهو اذ يغوص في تاريخها وحياتها ومعالمها، ينتقل الى طريق الحرائق والحرير بدءاً من سايغون في فييتنام حين كان الصراع بين الفييتناميين والأميركيين في أوجه. وهو اذ يتوقف طويلاً بين خي سانة وسونغ والفييتكونغ، يروي حكايات المونتانيار. لكنّه يجول بين تايلند وكمبوديا ولاوس، يكتب سيرة مقتضبة عن مشكلات الهند الصينية ونارها وحريرها.
ولا يقف صاحب الأسفار عند حدود تايوان وهونغ كونغ وماكاو وسنغافورة، بل ينتقل الى الجانب الآخر من أوروبا المنسية آنذاك. فيشهد في مفكرة الغزو في تشيكوسلوفاكيا ليدخل براغ صحافياً وحيداً، ويكتشف برودة بوخاريست. وبين قبرص وكوبنهاغن دلالات مختلفة.
في «الجانب الآخر للتاريخ» يعرض الريس ذلك الزمن الجميل الآفل، على رغم الحر الذي يلفح تلك الصحراء الذهبية الواسعة. ومثلما يقول الريس «لا يمكن تفسير كل ما يقع اليوم من أحداث في آسيا وافريقيا اذا لم يُربط بالتاريخ».