strong> بيار أبي صعب
  • المتكلّم والغائب تعانقا على أبواب جهنّم

    كل عمل جديد للثنائي الرهيب لينا صانع/ربيع مروّة هو مانيفستو جمالي وفكري وسياسي... وفضيحة إضافيّة، تضاف إلى سلسلة طويلة من الاعتداءات على الجمهور... والذوق العام. «الزايدة» مسرحية لينا الجديدة المبرمجة في «مهرجان الخريف» الباريسي، بلغت ذروة السوداويّة والعبث

    المؤلف أمامنا على المسرح. ليس هناك مسرح، فعرض «الزايدة» يقدم في «غاليري صفير ـــ سملر» في بيروت، وارتباطه الوثيق بـ«الفنّ المعاصر» يسمح بذلك. علماً أن السبب المباشر لاختيار هذا الفضاء الخاص خارج المدينة، بدلاً من الأماكن التقليديّة، قد يكون ببساطة الهروب من بطش الرقابة واضطهادها.
    المؤلف؟ بل قل المؤلفة. والجنس هنا أساسي، إنّه من المحاور الخفيّة التي تقوم عليها فكرة العمل. ما دام عرض لينا صانع “الزايدة” (إنتاج جمعيّة “أشكال ألوان” ـــ بيروت، بالاشتراك مع “مهرجان الخريف” ـــ باريس)، على علاقة عضويّة بهويّة صاحبته، وذاتيتها، وحياتها الشخصيّة، و... جسدها!
    المؤلفة أمامنا في دائرة الضوء. مؤلفة بمعنى صاحبة العمل طبعاً، لا كاتبة النص فقط. النص مجرّد عنصر من عناصر العرض. كان ليكون هو العرض كلّه، لولا مجموعة من التفاصيل الصغيرة التي قد لا ننتبه إليها، مع أنّها جوهر المسألة، وسرّ اللعبة. الفنّانة هنا بصفتها الشخصيّة: لينا صانع المؤلفة. صاحبة الكلام (أو المداخلة، البيان، القصّة...) الذي سنسمعه من شخص آخر، هو ربيع مروّة.
    ربيع مروّة ليس بغريب عن تجربتها، ما دام شريك مسيرتها المسرحيّة. ولا بالغريب عن حياتها الخاصة. إنّه زوجها... وهو هنا بهذه الصفة. «الزوج» صفته المسرحيّة. وتجربة لينا صانع تنتمي إلى هذا الاتجاه «المعاصر» وريث طليعيات القرن الماضي في أوروبا، الذي يتخذ من جسد الفنان وحياته الخاصة مادة لفنّه وموضوعاً لهذا الفن. ربيع زوجها، ناقل كلامها، المتحدث الرسمي باسمها إذا شئنا. الشاهد على صراعاتها الداخليّة، المؤتمن على تنفيذ وصيّتها: لينا لا تريد أن تدفن بأي شكل من الأشكال. وحده الحرق يتناسب مع خياراتها وقناعاتها. والحرق ممنوع في لبنان مبدئيّاً، بسبب الأديان السماويّة التي لا تقبل به. إنها إذاً في مواجهة المجتمع والقوانين الدينيّة والزمنيّة. تريد أن تلتفّ على الزمن وتضمن موتاً على طريقتها. أن تحتال على المجتمع، تغافل حرّاس القوانين السماويّة والأرضيّة، تسرق جسدها “منهم”، تهرّبه قطعة قطعة، من دربهم. تريد أن تستبق موتها، من دون أن تستعجله، فهي “تحبّ الحياة”، و«اللذة» هدفها من كل هذا المشروع... وأي شبهة ألم مديد وخارق، مرفوضة. الألم قد يؤدّي إلى تطويبها قديسة، ويعيدها إلى الحضن الديني الذي خرجت عليه... فتصادرها الجماعة بعدما اختارت الانحـراف عنها، وأفلتت من حظيرتها.
    هكذا تشركنا في إيجاد حلول لهذه المعضلة، أو الإشكاليّة. تفكر أمامنا بصوت عال. على لسان وسيط هو محرّك العرض. هي جالسة الى اليسار، جامـــــــــدة، صامتة، وربيع واقف إلى اليمين وراء مــــــــــــنصّة بلكسيغلاس كالتي تستعمل في المهرجانات السياسيّة أو المواعظ الدينيّة أو المحاضرات الأكاديميّة الرصينة. يقرأ نصاً مكتوباً، بقميصه البيضاء وبذلته الداكـــــــــــنة ولحيته المقلقة وعينيه المبرزقــــــــــــتين غالباً، ونبـــــــرته الجادة جداً في نقل هذا الهذيان، وحركاته المبالغة التي تذكّر بالمبشرين (tele evangelists) على التلفزيون الأميركي. نتنقّل بين ضمير الغائب وضمير المتكلّم. أي متكلّم؟ ربـــــــــيع أم لينا بصوت ربيع؟ ما يخلق حالة تغريبيّة تؤثر على عمليّة تلقّي العرض. المسافة النقدية تتسع للمجاز، والاستعارة، ولا تمنع الاندماج في هذه اللعبة التي تزداد عنفاً، ودمويّة، وفجاجة، وبورنوغرافيّة، مع مرور الوقت...
    يقول لنا إنها تخطط لبتر أعضائها، تدرس كيفيّة المباشرة بموتها، كمشروع طويل، يكون مشروع حياة... هكذا تخترع حريّتها. وحدها ضدّ الآلهة، على طريقة بروميثيوس، صديقها الإغريقي القديم. ما دام الحرق ممنوعاً، ستبتر أعضاءها الزائدة، واحداً بعد آخر، وتحرقها. لكن هذه الخطّة محدودة الأفق. والقانون يمنع “التشويه الذاتي”... إلا إذا كانت عمليّة فنيّة. هناك إيحاء مباشر إلى الفنانة الفرنسيّة Orlan التي تجري عمليات جراحيّة على جسدها، وتصوّرها بصفتها عرضاً فنياً. مع الثنائي مروّة/صانـــــــــــع تبقى المسائل ـــ لحسن الحظ! ـــ عند حدود الكلام. الحكي هو حجر الأساس في عرض يرفض الروائي والتشخيصي والجسماني الاستعراضي... ويكـــــــــــتفي بالمحاضرة/المداخلة، بالصورة المركبة، والأفق المـــــســــــــــــرحي المسدود عمداً، المفرّغ عمداً، حتـــــــــى التصفّي والنقاء. وإذا كان لا بد من الجسد فهو مجموعة إحالات بصريّة، وتجهيزيّة، وبنائيّة.
    لينا تجد حلاً جديداً لمعضلتها: ستبيع أجزاء من جسدها على الإنترنت (الموقع موجود فعلاً، يعطينا ربيع عنوانه:
    (www.callforbodypartsignature.blogspot.com)، وعـــــــــــند الوفاة يتسلّم كل صاحب جــــزء جزءه موقّعاً، فإما أن يحافظ عليه أو يحرقه. وفتحت موقعاً إباحياً آخر، لتبـــــــــــحث عمن يمارس معها الحب (وتأتي الإجابات بالمئات) بعدما تخفّف جسدها من أعضائه، ولم يبقَ سوى “الأســـــــاسي”: ثقبان وفم. ما يكفي لممارسة الجنس، وممارسة المســـــــرح. لينا غير متمسّكة إلا بلسانها، لأنها تكره المسرح الذي يوظف الجسد. وحده اللسان يكفي، كي تحافظ على مواطنتها، ومقدراتها التمثيليّة.
    “المؤلفة” على المسرح جامدة. لا تمثّل، لا تنبس ببنت شفة، لا تتحرّك إلا باقتصاد شديد، ومينماليّة قصوى. ومع ذلك تملأ الفراغات الشعوريّة بزخم داخلي حاد، يظهر على وجهها. هذا ليس بالسهل أبداً، أن تكون محط الأنظار، محور الاهتمام، موضوع “الحدث”... وفي الوقت عينه ألا تكون شيئاً. أو بالأحرى أن تكون “شيئاً”، تمثالاً. المرأة الشيء. حضورها، صورة. إحالة شعوريّة وذهنيّة، وربما رمزيّة، إلى حضور. تمثال بشريّ. عنصر في هذه البيرفورمانس التي تدور حول جسد الفنان: جسد الفرد، المواطن، المرأة، الإنسان، الجسد الاجتماعي أيضاً، الجسد المتمرّد، الباحث عن حريّة وجوديّة وميتافيزيقيّة. جسد مجازي، يحارب كما بطلات التراجيديا اليونانيّة لانتزاع حقّه الرمزي. ألم يكن هدف أنتيغونا يقتصر على الفعل الرمزي: أن تهيل حفنة من التراب على جسد أخيها متحديةً سلطة خالها الطاغية كريون؟
    يحتوي عرض “الزايدة” على جرعات كبيرة من العنف والبذاءة والمباشرة. إنّه القرف مؤسلباً. ويقوم النصّ على استنفاد اللغة المتداولة، ونقد ترسّباتها الاجتماعية والأخلاقية والثقافيّة والأيديولوجيّة. وهذه الراديكاليّة هي فعل تعبير عن يأس عنيف، عن أقصى حالات التشاؤم، وهو في الوقت نفسه إعادة تأكيد الرغبة والنزعة الشبقيّة. لينا صانع وربيع مروّة هما، بمعنى ما، من ورثة مدرسة فيينا التي أطلقها في ستينيات القرن الماضي، فنانون محبطون في مجتمع مريض، مثقل بأعباء الحرب وعواقبها... راهنوا على البعد الملموس للفنّ. هرمان نيتش، غونتر بروس، أوتو موهل، روّاد “الفعل المسرحي” في فيينا، Wiener Aktionisten، اتخذوا من جسد الفنان محوراً لإبداع قائم على “سياسة التجربة”، منطلقين من القدرة الإيحائيّة للأشياء على طريقة الفن المفهومي، لتحرير لاوعي المشاهد، ودفعه الى التطهّر من كوابيسه. واختاروا “الحدث” أو “الفعل” Action، حجر الأساس لأعمالهم. هكذا وظّفوا الواقع، وأجسادهم، في لعبة تفكيك عنيفة صادمة، تفضح اللغة والمجتمع والسلطة.
    ولعلّ “الزايدة” أقرب إلى “فعل” مسرحي، إنّها عمل استفزازي في قلب واقع سوداوي حتى الموت. وما أقرب فيينا قبل نصف قرن، من بيروت اليوم، مدينة الهزائم العربيّة والاحتضار البطيء...