strong> مهى زراقط
  • الأرستقراطية التي صارت فدائيّة في الأدب والحياة

    قبل عشرة أيام، فقد الأدب اللبناني واحدة من أبرز رائداته. ليلى عسيران التي اكتشفها أحمد بهاء الدين، وأطلقها سعيد فريحة، واجهت الموت منذ روايتها الأولى منتصف الخمسينيات. التحقت بالفدائيين في أغوار الأردن بعد «هزيمة» الـ67، وظلت تعتبر الكتابة فعل مقاومة، ومساهمة في تغيير الحياة

    «ليس في حياتنا حقيقة واحدة، مهما كبرت أو صغرت، نستطيع أن نتأكد من وجودها إلا الموت... ألسنا شجعاناً إذ نمضي في الحياة كما لو كانت أزلية؟». هذا ما كتبته في مذكّراتها عائشة، بطلة رواية ليلى عسيران «لن نموت غداً»، إثر وفاة والدها. تلك الرواية حملت عسيران التي انطفأت في بيروت يوم 16 نيسان الجاري، إلى موقع الريادة في الأدب النسائي اللبناني، أواسط خمسينيات القرن الماضي... بعد تصالحها مع فكرة غياب الأب الذي فقدته في سنّ مبكّرة، قررت ليلى عسيران، مثل بطلتها عائشة، أنها ستخوض مغامرة الوجود بشجاعة... وهكذا كان: لقد احترمت الكاتبة التزامها حتّى الرمق الأخير، في رواياتها كما في حياتها. هي، المرأة التي «مرّت بتجارب غير عادية في حقبة تاريخية مترعة بالأحداث وبالأفئدة المتحمسة» كما عرّفت بنفسها في كتابها الأقرب إلى السيرة «شرائط ملوّنة من حياتي» الصادر عام 1994.

    رؤيا غامضة

    ليلى عسيران لازمتها، منذ أول الطريق، رؤيا غامضة بأنّها ستصبح إما كاتبة كبيرة... وإما عازفة بيانو عالمية. لكنّها لم تحلم يوماً بكتابة روايات خيالية «فائضة في الحبّ الناعس والمثاليات غير الواقعية». لقد التزمت الإنسان قضية، وجعلت الوطنية والعروبة مقياساً في حكمها على الآخرين، وذلك على امتداد رواياتها العشر التي كانت آخرها «حوار بلا كلمات في الغيبوبة» الصادرة عام 1998.
    منذ «لن نموت غداً» بدأت ليلى عسيران رحلة بحثها عن المعنى، كانت تشبه بطلتها عائشة إلى حد كبير، الفتاة الأرستقراطية المنتفضة على حياة مترفة و«فارغة». في الرواية، كان الرسام أحمد هو من شجّع البطلة عائشة على العمل. وفي الحياة كان الصحافي المصري أحمد بهاء الدين هو من «اكتشف» موهبة ليلى عسيران الصحافية. التقى بها، شابة عشرينية، تعمل في مجلة «الشبكة»، واقترح على زميله سعيد فريحة، وهو من العلامات المضيئة في مسيرة الصحافة اللبنانيّة، أن يستفيد أكثر من تلك الفتاة التي تستطيع بالتأكيد أن تكتب ما هو أهم من المواضيع المتعلّقة بالأزياء والمرأة. آمن أحمد بهاء الدين بليلى عسيران ولم تخيّب ظنه. هكذا، حقّقت أكثر من سبق صحافي كان من أبرزها آنذاك تغطية محاولة الانقلاب التي قام بها اللواء علي أبو نوار على ملك الأردن في نيسان 1957، ثم انفرادها بمقابلة معه بعد فشل محاولته وفراره إلى سوريا.
    شكّل هذا النجاح الإعلامي دخولاً قوياً لليلى عسيران إلى عالم الصحافة. لكنّه لم يشكل بدايتها مع العمل السياسي والعام. هي الفتاة الناشطة سياسياً التي شهدت استشهاد أحد زملائها في أول تظاهرة سارت بها نصرةً للرئيس المصري جمال عبد الناصر بعد توقيعه صفقة أسلحة مع تشيكسلوفاكيا.
    آنذاك لم تكن ليلى عسيران انتسبت بعد إلى حزب «البعث العربي الاشتراكي»، ولا بادرت إلى طرق باب مؤسسه «الأستاذ» في مقرّ إقامته الصيفية في برمانا، لتشكو له همومها الإنسانية والوطنية. لكن «بقدر ما كان دخولي إلى الحزب محطةً مهمةً كإحدى أهم ذروات مسيرتي في الحياة، بقدر ما كان قراري بترك الحزب تافهاً وعادياً».

    مأساة فلسطين

    إحباطها القومي الأول كان مأساة فلسطين التي عاشت قضيتها بكلّ وجدانها، حتى إنها التحقت بالفدائيين في أغوار الأردن ولُقّبت يومها بـ«الأخ ليلى»... وتركت روايتين عن «مقاومي» تلك المرحلة: «عصافير الفجر» التي كتبتها بعد «هزيمة» الـ67 ــــ إذ كانت من القلائل الذين اعتبروا «النكسة» هزيمة! ــــ ثم «خط الأفعى» (1972). وقد سردت فيهما يوميات المقاومة الفلسطينية في الأردن. وكتبت باسم «خضرة» في مجلة «الأرض المحتلة». وتابعت كتابتها عن المقاومة في «جسر الحجر» (1986) الذي أرّخت فيه قصة الجنوبيين من خلال شخصية أم قاسم المرأة التي أحبتها ليلى عسيران، إلى حد أنّها سألت زوجها عنها بعد جولة قتالية «ماذا حلّ بأم قاسم؟»، فأجابها بأن أم قاسم شخصية روائية غير موجودة في الحياة.
    تركت الحرب الأهلية اللبنانية أثراً كبيراً في عسيران، ولا سيما بعد وفاة الطباخ السوداني الذي كان يعمل لديها إثر تعرّض منزلها في جسر الباشا للقصف.... فكتبت في «قلعة الأسطة» قصة حبها له ولبيتها الذي «كنت أظن أن مجرد وجودي فيه كاف لحمايته... كان بيتي مثل أبي الذي توفاه القدر». وكتبت في تلك الفترة رواية «الاستراحة» التي تساءلت فيها إن كانت ذكريات الحرب تضمحل بمجرد ركوب الطائرة؟ وهذا ما لم تنجح فيه. إذ تقول البطلة مريم التي سافرت من لبنان إلى روما: «لقد حاولت أن أنزع من نفسي جذور مدينتي التي عشقتها، لكن أجواءها تحولت إلى خيوط من العنكبوت راحت تشد على أنفاسي». لذلك كانت روايتها الأولى بعد انتهاء الحرب الأهلية عن بيروت التي شبّهتها بـ«طائر من القمر» وروت فيها قصة حبّها لهذه «المدينة العجائبية» ولإنسانها «الفريد» الذي يعيش فيها ويصرّ على الاستمرار والحياة.
    ليلى عسيران هي زوجة الرئيس السابق أمين الحافظ. الرجل الذي أحبته كثيراً وانتقدت نفسها علناً أكثر من مرة لأنّها ربما لم تحقق له الحياة الزوجية المفترضة بسبب حساسيتها المفرطة وانشغالها بالقضايا القومية. تعرّضت عام 1996 لأزمة قلبية حادة أدخلتها في غيبوبة طويلة، كتبت بعدها معاناتها مع المرض وتجربة مواجهة الموت في «حوار بلا كلمات في الغيبوبة» (1998). وكانت تحلم بكتابة رواية عن «معتقل الخيام»، كما صرّحت في أكثر من مناسبة، لكنّ المرض لم يمهلها الوقت الكافي لإنجاز ذلك المشروع. حتى اللحظة الأخيرة من حياتها بقيت ليلى عسيران وفيّة للصورة التي رسمتها ذات يوم عن نفسها: الإنسانة التي «اتخذت موقفاً من الحياة ولم أمرّ بها مروراً سطحياً، ولم أقبلها على عواهنها، بل حاولت التدخل فيها».