strong>ثائر غندور
«لنقف ونتأمل قليلاً في معجزات الفن العربي: قناطر مشتبكة كأنها أرواح حملت من النقوش الرقيقة المشجرة ما هو أشهى من الثمار، أو كأنّها غابة نخيل ظليل في واحة غنّاء، وعلى الجدران رسم وحفر ونقش وترصيع ووشمٌ غاية في الفن والإبداع، تحلّت بالذهب ووُشِّيت بالألوان الزمرُّدية والقرمزية والسماوية. ألوان باهرة كالشرق بأنواره المشعّة...». هكذا وصف مصطفى فروخ فنّ الزخرفة في العمارة الأندلسية خلال زيارة للأندلس (1930) توّجها بكتاب مرجعي هو «رحلة إلى بلاد المجد العربي المفقود» (دار المفيد ــــ 1982).
خمسون سنة مرّت على رحيل هذا الرمز التشكيلي اللبناني من الرعيل الأول الذي شكّل المشهد الفني اللبناني مع عمر الأنسي وقيصر الجميل ولاحقاً صليبا الدويهي. في هذه الذكرى، احتضن مركز التراث اللبناني في الجامعة الأميركية اللبنانيّة معرضاً ضمّ أعمال فرّوخ، وندوةً تكريميةً شارك فيها الشاعر هنري زغيب والكاتبة مي منسى والناقدة مهى سلطان والشاعر جوزف أبي ضاهر والرسامة إلسا غصوب. وفي المناسبة، عُرضت للمرة الأولى مجموعة تضمّ خمسين رسماً بالحبر الصيني، أنجزها فرّوخ على دفاتره الخاصة خلال رحلاته إلى فرنسا وإسبانيا وبريطانيا بين عامي 1930 و1937. وعُرض للمرة الأولى فيلم يجمع فروخ مع الأديب ميخائيل نعيمة ومحمد دوغان في منزل نعيمة في بسكنتا. وظهر نعيمة خلال الفيلم المصور بكاميرا 8 ملم، وهو يقرأ بعض كتابته، فيما كان فرّوخ يرسم.
مصطفى فرّوخ صاحب الوعي القومي، المسكون بهاجس النهضة العربية، اشتهر بفن البورتريه، وشكّلت القرية اللبنانية أحد مواضيع لوحاته الأساسية. ولعل تجربته انطلقت من مكانة الفنّ في نهضة الأمم، إذ إنّ الشعوب العربية هي الأحوج إلى التربية الفنية. من هنا، سعى إلى دراسة الفن العربي ــــ الإسلامي في الأندلس. قسّم تلك الحقبة إلى ثلاث مراحل، أو «أدوار» كما سماها في كتابه: «دور الفتح أو النهضة»، و«دور الانتقال» ثم «دور السقوط»، رابطاً كل دور بعمل فني يمثّله نسق إبداعي في الجمالية والتقنية. هــــــــكذا، اعتبر «مسجد قرطبة» رمزاً لنسق الفن الأندلسي في الدور الأول، و«قصر الزهراء» للدور الثاني في إشبيـــــلية.... فيما يمثّل «قصر الحمراء» في غرناطة الدور الأخير من الحضارة الأندلسية. وما زال مؤرّخو الفنّ الأندلسي والإسلامي يتبعون حتى اليوم منهجية فرّوخ في تقسيم مراحل تطوّر الحضارة الأندلسية.
الأندلس كانت محطّة ضمن سلسلة رحلات قام بها فرّوخ في حياته. هذا الطفل الذي وُلد عام 1901 في بيئة متواضعة في حي البسطة التحتا في بيروت، وضمن منظومة اجتماعية تُحرّم التصوير، انتظر حتى بلوغه العاشرة كي يرى أول لوحة في حياته. في عام 1924 نال منحة ليلتحق بالأكاديمية الملكية للفنون في إيطاليا، بعدما كان قد تعلّم مبادئ الرسم في محترف حبيب سرور في بيروت. في روما، انكبّ على دراسة التشريحات، وعلم المنظور، ونظريات اللون والضوء، وهام في متاحف عاصمة الإمبراطوريّة القديمة، وفي قصورها وكنائسها.
العلاقة التي نسجها فرّوخ مع إيطاليا بعماراتها وفنّها الكلاسيكي القديم، دفعته إلى رفض التيارات الفنّية الحديثة عندما انتقل الى فرنسا، ليتتلمذ على يد بول شاباس رئيس جمعية الفنانين الفرنسيين آنذاك. «باريس كبيرة، ومصطفى صغير، فكيف العمل؟ لم يستطع دماغي الفني تحمّل كل هذا وأنا قادم من روما، من بلد أوروبي لا من أحد بلدان الشرق الساكن المطمئن...». هكذا وصف باريس عام 1927، مضيفاً «الفن القديم الكلاسيكي في إيطاليا والفن الحديث في فرنسا. فن روما رصين مطمئن، بينما فنّ باريس صاخب ثائر».
أمضى فرّوخ أيامه الأولى في متحف اللوفر، دارساً كل لوحة ومسجلاً ملاحظاته، متطرقاً إلى الثورة الفنية التي قامت في الفن الفرنسي على يد الانطباعيين. كتب عن أعمال مونيه ومانيه ودوغا وسيسلي ورونوار في كتابه «طريقي إلى الفن»: «في هذه اللوحات نرى التجدّد في التفكير واللون والرسم والإدراك والنظر...». فيما اتخذ موقفاً سلبياً من التيارات التكعيبية والوحشية والمستقبلية، وغيرها من «طفرات الحداثة»، واصفاً بيكاسو ودوفي وماتيس بـ«دجّالي الفن الذين مسخوا الفن والأخلاق وكدّروا صفاء الفن الجميل بأساليبهم الوحشية ليتاجروا به وليفسدوا أذواق الناس».
ولا شك في أنّ رفض فرّوخ تلك التيارات الفنية في فرنسا عائد إلى تجذّره في الفنون الكلاسيكية في روما، ما جعله يرفض كل ما يتمخّض عنه المجتمع الصناعي في فرنسا، من مفاهيم تعكس واقع النظام الرأسمالي وحركة العرض والطلب في السوق الفنية. إلا أنّ كل ذلك لم يمنع فرّوخ من أن يكون أوّل لبناني يشارك في «صالون باريس» عام 1930.
موعده الأول مع بيروت كان عام 1928، حين أقام هذا الفنان الانطباعي أول معرض له في دار الوجيه أحمد بك أياس. ثم ما لبث أن التحق بالجامعة الأميركية (1932) ليدرّس الرسم. في السنوات التالية، سيبرز اسم فرّوخ في الساحة التشكيلية اللبنانية من خلال العديد من المعارض، وعبر سلسلة من الكتب والدراسات التي أعدّها وما زالت تشكّل حتى اليوم مرجعية يلجأ إليها المؤرّخون التشكيليون.
في قراءتها لرسم الوجوه عند مصطفى فروخ، تقول الزميلة مي منسى: «اختصر في لوحته البيئة وسكانها، واجترح من مخمل الدراق لقاحاً مَخْمَل به بشرة المرأة، وأتى بالنسيم يداعب به أغصان الدلب والزيتون والحور، وجعل من مشهد الراعي والخراف إنجيلاً يعيد الإنسان إلى إيمانه بالوطن... كما النحات من الصلب تماثيله، هكذا جعل من ريشته شبه إزميل نحت به تضاريس الوجوه وسني العمر وقساوة القدر».

(www.farroukh.org)