رلى راشد
تقشعرّ أبدانكم لمجرّد ذكر اسمه. جان باتيست غرونوي: يُعيدكم إلى باريس القرن الثامن عشر، إنّه مسخ الروائح الهارب من رواية باتريك زوسكيند الشهيرة. ترونه هائماً في أحياء المدينة، مُتلقفاً “عطراً مثالياً” يُقطّره من العذارى، فيستحيل سَفّاحاً بلا رحمة. صدرت رواية “العطر” قبل أكثر من عقدين، فيها سخّر الروائي الألماني سرده الاستثنائي ليصل إلى وصف تفصيلي لحاسّة ازدراها الفلاسفة بدءاً من أرسطو... ووصولاً إلى كانط. لارا فيجيل، أستاذة الأدب الإنكليزي في جامعة ساسيكس، وضعت أنطولوجيا خاصة بالعطور عبر الأدب. وزّعت تلك المُختارات التي نشرت تحت عنوان “باقة: رحلة أدبيّة من المُعَطِّر الى النتن” (دار “أولد ستريت بابليشينغ”)، على فصول: شذا الإنسان، الروائح الكريهة، روائح التاريخ النتنة... وتوقّفت عند أعمال أدبية تعبق بالروائح.
في هذا السياق، تبدو رواية بروست “البَحث عن الزمن الضائع”، خلاصة الأدب خلال القرن التاسع عشر. إذ لا تغزُر فيها الروائح المميّزة فحسب، بل تتوغّل في قدرة الأريج على الإيحاء وإنعاش الذكريات أيضاً. يُؤكّد بروست أنّه من الماضي القصي وموت الأشخاص والأشياء، لا يبقى سوى الذوق والشمّ، وقد أضحيا أكثر هشاشة... إنّما أكثر حياةً يهيمان “تماماً كما الأرواح”.
وبدوره يُعَدُّ جورج أورويل، في “الطريق إلى وايغان بيار”، مؤرّخاً نَهِماً للشذا. لقد وصف رائحة الأحياء الفقيرة، وتحدّى بإقدام أفكار الطبقة الوسطى البريطانية المتوارثة، وبينها القناعة بأن الروائح النتنة تلتصق بأبناء الطبقات العاملة. أما شارل بودلير، فغاص شعره الشَّهواني في مكنونات الروح الشقيّة، عبر حاسة الشمّ، واحتفى بقدرته على التقاط “ذراّت” العطر كما في قصيدة “الشعر” من مجموعته “أزهار الشرّ” التي جاء فيها: “مثلما تُبحر أرواح أخرى على الموسيقى. تَسبح روحي، يا حبّي، في عطرك”.
أما إميل زولا فاستسلم في روايته “نانا” إلى وصف العاصمة الفرنسيّة في ليلة ماطرة عندما تلفظ باريس “رائحة مزعجة تُذكّر بسرير شاسع غير مرتّب”. كما جعل الرائحة في “الحانة” مفتاح الولوج إلى حبكة وشخصيّات، بقدر ما اعتبرها مدخلاً إلى الوصف. فالأدخنة القوية المُنبعثة من الغسيل الوسخ ليست كريهة فحسب، بل تُشعر كليمانس وحبيبها بأنها تسمّمهما وتخدّرهما أيضاً.
وبعد قرن على كتابات زولا، جاءت رواية باتريك زوسكيند “العطر” (1985) التي بيع منها 150 مليون نسخة في 45 لغة، لتستكمل فسيفساء الروائح، من خلال استعادته لتلك الرائحة النَتنة المُنبعثة من أحياء فرنسيّة فقيرة، وتشبيهه للشذا الاستثنائي الذي يفوح من فتاة جميلة بـ“قطعة حرير رقيقة ومتوهجة” ممزوجة “بحلوى مغمّسة بحليب مُحلّى بالعسل”.
وعلى ما يبدو شكّل كتاب آلان كوربان “النتن والمعطّر: الرائحة والمخيّلة الفرنسية الاجتماعية” مصدراً رئيسياً في أبحاث زوسكيند التي أنجزها قبيل الانكباب على روايته. تضمّن عمل كوربان سرداً مُفصّلاً لمسالخ وبواليع وجثث تنبعث منها روائح نتنة، في فرنسا القرن الثامن عشر. واللافت هو تبدّل المواقف من الروائح، مع تغيّر الحقبات الزمنية. يذكر مثلاً اعتقاداً سرى في القرن الثامن عشر، يفيد باختلاف رائحة الدم بين الذكور والنساء!