strong> عبد الغني طليس
ثمة افتتاحية سياسية كانت تعجبني وتتعبني في آن. كل يوم كنت أعجب وأتعب بها، وكان إعجابي يرتفع كراية، وتعبي ينحني كسنبلة. كل يوم. كل يوم.
فمن أين لذلك الكاتب الأنيق الأسلوب، القصير الجملة، الممتلئ العبارات بالمعنى، من أين له كل ذاك المدى المشرق من الأفكار؟ وكل تلك الثقة في ما يقول؟ وكل ذلك البصر النافذ؟ وأخيراً كل أولئك المعجبين مثلي الذين يتعبون في ملاحقة فكرته ابتداء من الصياغة الأدبية المشفرة، مروراً بالمعنى السياسي الذكي، وصولاً إلى الهدف النبيل من الكتابة؟
لم يكن جوزف سماحة رئيس تحرير يكتب افتتاحية، لأن ثمة فراغاً رئيسياً على يمين الصفحة الأولى يجب أن يُملأ. لم يكن الحبر ضرورياً، حتى. الضروري هو أن تصل مقولة سياسية ما، أطروحة سياسية ما، مبنية على معلومات وتحليل لا ينص أحدهما على الآخر شيئاً. هو المزيج الخطر من الوقائع والتصورات والكشف المبكر. هو صناعة الموقف قبل تسطيره، وبعد تسطيره، وإلى آخر الكلمات في الهواء النقي، هواء السياسة الذي افتقده لبنان جدياً وكاد ينقرض.
لم ينقرض لأن جوزف سماحة، وقلة من حملة الأقلام ما زالوا يراهنون على صحافة لبنانية تغلب الهوى وتغلبه، وترفض الوصاية، أجنبيّة كانت أو عربية.
كان جوزف سماحة كاتباً. كان حقاً يكتب. وكانت الكتابة عملاً صدامياً يقف كعمود الماء في اللحظة المناسبة، في اللحظة الحاسمة، في اللحظة التي يتم فيها اختبار الذات ألف مرة في اليوم، وكل يوم، ولا تسقط، رغم سهولة السقوط المتذرّع بالظروف والواقعية.
جوزف سماحة رغم ذلك، مات. كنا نعتقد أنّ مثله لا يموتون قبل أن يشيخوا. مات. ربما كنا نشيخ نحن قبل أن يرسل الرب إلى بلد منفي اسمه لبنان من يكتب بالصدامية نفسها، ويرينا عمود الماء وقّافاً من جديد.
تحدث زياد الرحباني عن ملء الفراغ، وترك فراغاً في المقالة تعبيراً حقيقياً عن الفراغ. كان جوزف يفعل ذلك، يملأ فراغ الصوت واللسان والأذن والعين والحاسة السابعة بعد السادسة التي ادعى كثيرون امتلاكها، فحاد عنها جوزف. الحاسة السادسة أصبحت “شرطوطة”... بالطاء لا بالميم، تعبيراً عن اهتراء نقصده أكثر مما نقصد العهر.
جوزف كان لا يحب “الشراطيط”. ترك لهم الحاسة السادسة يتنعمون بها دولاراً دولاراً، موقفاً موقفاً، ثم فجأة تركنا معهم من دون أن نجد من يملأ الفراغ بالحاسة... السابعة التي كان يعرفها وتعرفه ويلازمها وتلازمه، وفي عز الظهيرة خانته وخانتنا مع ذلك الأحمق العاقل الحقير الجميل الذي اسمه الموت.
كان جوزف سماحة سيداً حراً مستقلاً حقاً... من دون جميل “ثورة الارز”!
  • يقيم أصدقاء جوزف سماحة صلاة لراحة نفسه عند الحادية عشرة صباح يوم الأحد المقبل، في كنيسة سان جوليان لو بوفر في باريس.
  • بدعوة من نقابتي الصحافة والمحررين ووزارة الثقافة اللبنانية وحلقة الحوار الــــــثقافي وكلية الإعلام فـــــي الجامعة الـــــلبنانية وصحيفة “السفير”، تقام ندوة عن جوزف سماحة، الخامسة من مساء الأربعاء 21 آذار (مارس) المقبل، في قاعة نزار الزين، مبنى كلية الآداب الفرع الأول، في بيروت.
    ويشارك في تقديم الشهادات كل من الوزير طارق متري، سليمان تقي الدين، جورج ناصيف، جورج دورليان، حسن داوود، ميشال سماحة، مصطفى جرادي، إضافة إلى كلمة لنقابة المحررين. تدير الندوة ليلى الرحباني.