رنا حايك
تركت مي غصوب، من جملة ما تركت، شهادةً في حبّ بيروت. Leaving Beirut الذي تصدر ترجمته العربيّة عن “دار الساقي”، كتاب خُطَّ بحبر المرارة، وجاء محاولة للتّطهر من حرب أهلية استعمرت ذاكرة الكاتبة اللبنانيّة الراحلة

يكاد هجر بيروت يكون الوسيلة الأمثل لولوجها مدينةً متخيّلة، يتعاظم سحرها كلما ازداد الابتعاد عنها. “في الرحيل الكبير أحبك أكثر” قال مرةً محمود درويش عن فلسطين. ومي غصوب أحبّت بيروت في الرحيل، مدينةً تتقن الاحتفاء بالحياة ويسكنها صخب القتل والموت والدمار. أحبتها من منفاها الاختياري في لندن بعدما عجزت عن التصالح مع وجهها الجديد وسلمها الوهمي بعد فصول الدم المرعبة. وبعد أسابيع مريرة على رحيلها، ها هي “دار الساقي” التي شاركت في تأسيسها وازدهارها، تصدر الطبعة الثانية بالانكليزيّة من كتابها “Leaving Beirut” (الطبعة الأولى صدرت عام 1998). “هجر بيروت” جاء محاولة للتّطهر من الذاكرة الكابوسية، وتعويضاً عن استحالة التصالح مع تلك الذاكرة في ظلّ علاقة شائكة تحكمها مشاعر معلّقة. بحث في غياهب اللاوعي عن وجوه ونماذج بشرية تقاطعت دروبها مع درب الكاتبة الراحلة، وشكّلت وعيها بالواقع الدامي لمدينة لها ألف وجه. الكتاب مزيج من السيرة الذاتية، والسير الخاصة لأشخاص سكنوا ذاكرتها ومشاهد طبعت وجدانها. إنّه كتاب الأسئلة أيضاً. أسئلة فرضت نفسها على جيل مي من المثقفين اليساريين الذين مارسوا النشاط السياسي خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية: أسئلة عن الأحكام المطلقة والنسبية وآليات تبرير العنف والعقاب والمصالحة، وتصفية الحسابات في مقابل الاستسلام لخيار فقدان الذاكرة.
إلا أنّ السؤال الأهم الذي تدور فصول الكتاب جميعها في فلكه هو الانتقام. ذلك السلوك الإنساني الذي علّمت “مدام نومي” تلميذتها الصغيرة مي في مدرسة “الليسيه” ذات يوم، “أنّه أبخس أشكال السلوك، وأكثرها تعبيراً عن الجبن”. تعود مي إلى مبدأ الانتقام نقطةً محورية في جميع فصول الكتاب. تعود إليه دوماً من خلال “عبرة” مدام نومي التي شكّلت وعيها وأثارت حيرتها في تقويم الحرب التي أقصتها عن البلاد بعدما سرقت منها عيناً وذاكرة...
لكن هل طيّ الصفحة يكفي؟ بعضهم في جنوب أفريقيا يرى أنّ الغفران والنسيان يقودان إلى المصائب. هل أصلح الانتقام الحال في لبنان والعراق؟ وفي المقابل، ماذا يجدي اعتماد المذهب التبريري الذي غرق فيه الجيل الجديد بعدما تجرّع قيم التسامح وتقبل الآخر؟ وحين تصبح السياسة “حقلاً للمواجهة بين مختلف القيم والمصالح”، كيف نفرّق بين الجلاد والضحية؟
أسئلة يتردد صداها بين فصول الكتاب... إذ تستعيد مي مختلف المراحل التاريخية في كل البلدان، تعيد نسجها ككسوة بينيلوب التي لا تنتهي. تستعيد المتعاونين مع الاحتلال النازي في ظل حكومة فيشي في فرنسا، وبعدهم من اعترفوا بتنفيذ أحكام الإعدام التي أمرتهم بها الحكومة الأرجنتينية عام 1970 من دون أن يعتذروا عنها، لأنها كانت أوامر عسكرية. وتستعيد الخادمة المطيعة لطيفة التي تصبح أسطورة خلال الحرب الاهلية ويطلق عليها اسم “أم علي أخت الرجال” ثم تموت من دون أن تترك صورة عنها أو دليلاً على وجودها فتتأرجح قصتها بين الواقع والأسطورة.
وتخصّص مي فصلاً كاملاً لسهى السمان، المرأة ـــ الطفلة التي نفذت عملية استشهادية في الجنوب تحت تأثير قصيدة لنزار قباني يتغنى بها بفلورا، تلك الشابة الإسبانية التي “وهبت حياتها من قرون مضت للقضية ذاتها”. هل كانت سهى تعرف “أن أعداء فلورا لم يكونوا سوى أجدادها؟”... على مذبح الأندلس، حلم العرب الضائع، قدّم الكثير من الأبطال الذين تتغنّى أدبيات العرب ببطولاتهم إلى اليوم. لكن البطولات ليست مطلقة دائماً.
جيل مي غصوب يرفض أن يكون ممن يطلقون الأحكام المسبقة، أو المطلقة، حتى في ما يخص البطولة. فالمعايير تضيع وسط قسوة المشهد وتداخل معطياته. البطولة لا تكتمل، والإدانة لا تحسم، والمصالحة لا تبنى على أساس متين... لأنها لا تنطلق من تصفية حسابات واضحة. تتساءل مي: “لماذا عدت إلى بيروت؟”... تلك المدينة التي عشقت فيها كوزموبوليتها وحبّها للحياة، واحترقت في أتون الحرب... مثلما احترق مسرح فاروق في أوائل السبعينيات. تلك المدينة التي حاولت مي إقصاءها عن ذاكرتها، كلّما أقفلت الهاتف في وجه أبي فراس، أحد شخوص الماضي الذي حاول اقتحام منفاها الآمن. تحاول الراوية أن تجد سبباً لعودتها: “قد تكون كومة الرسائل التي كتبتها من منفاها لمدام نومي من دون أن تبعث بها؟ أو لعلّه إحساس بضرورة النظر إلى الوراء”.
إلا أن العودة إلى الوراء لا تبدو سهلةً. فعلى رغم الدفاعات النفسية التي تستخدمها لبث الاطمئنان في نفسها على مدينة استفاقت وعادت إلى الحياة، ما زالت المصالحة صعبة. بدت غير قابلة للتحقيق حين عجزت مي عن دخول دكانة أبو سعيد. ماذا لو كان سعيد في الداخل؟ هل تستطيع النظر في وجهه مجدداً كأن شيئاً لم يكن؟ هذا الدكان الذي لطالما أشعرتها “خضرواته الملونة بالألفة” أصبح مبعثاً على الخوف. فسعيد، ابن “الدكنجي” السمح واللطيف حولته سنون الحرب إلى “وحش صغير” لعب كل ألعابها من قتل وخطف وسرقة. “أي من السعيدين هو الحقيقي؟ هل لو أنه حوكم بعد الحرب كنت سأشعر بأمان أكثر؟”.
تتخبّط الكاتبة مجدداً في دوامة الماضي وتعجز عن التصالح معه... وبالتالي مع الوطن. توجه الحديث إلى مدام نومي مجدداً: “حين تصبح لدي الجرأة لدخول دكان سعيد وإلقاء التحية عليه من دون ضغينة، سأكون جاهزة لأقول إن النسيان والعفو هما القيمتان اللتان يجب أن ننادي بهما. إلى حينها، سأفكر بك، مدام نومي، سأفكّر في العبرة التي لقنتني إياها وأواجه مخاوفي وحدي”.
كتاب مي الذي وضعته بالإنكليزية، ستصدر النسخة العربية منه في “معرض بيروت العربي الدولي للكتاب” منتصف الشهر المقبل. هذا الكتاب ـــ الشهادة في حب بيروت، خُطَّ بحبر المرارة والألم، وعُجِنَ بالقطيعة مع ماض ومع وطن، ماتت الكاتبة قبل التصالح معه تماماً.