بيار أبي صعب
إنّه “مهيار الدمشقي” كما عرفناه. يواصل هنا رحلته الاستشرافيّة عبر “قصيدة بأصوات متعددة”. صدر الكتاب أخيراً عن “دار الساقي” بعنوان “تاريخ يتمزّق في جسد امرأة”،
وعلى غلافه رسمة بريشة الشاعر. كيف نقرأ أدونيس؟


في كتابه الشعري الجديد “تاريخ يتمزّق في جسد امرأة” (دار الساقي)، يبدو أدونيس كما عهدناه دائماً. كما أصبح. كما تبلور حضوره منذ “الكتاب”: عند ذروة مسيرة خاصة في اللغة والشعر والنقد، توغل في التراث الشعري (والفكري) العربي وترفع لواء “حداثة” مستحيلة. إنه الرائي الحكيم (المتنبي، تيريزياس، إسماعيل...) الذي يريد لحضارة كاملة أن تتكلّم بلسانه، لمنطقة (معذّبة) من العالم عند مفترق الأزمنة والانهيارات والتحولات أن ترشح من شعره المفرد. لذا تراه يخاطب زمنه بلغة استشرافية، تختزل تمزقات التاريخ وأحكام الجغرافيا. تلامس النبوّة.
أدونيس نبيّاً؟ ليس الأمر جديداً. يكفي أن نعود إلى قراءاته التحليلية للتاريخ الشعري العربي... إلى كتاباته الشعرية القديمة والجديدة، منذ “قالت الأرض” ربّما، لنلمس عند “مهيار الدمشقي” ذلك الامتلاء الروحاني، وتلك التقيّة التي تلازم الأنبياء المضطهدين والخوارج... ودائماً الرؤيا التي تعيد صياغة العالم ــ على اختلاف أزمنته ــ بلغة مجرّدة، ذهنيّة، ميتافيزيقيّة، فلسفيّة... ترافقه أسماء المدن وأسماء العلم، في هذا السفر الدائم والهجرة المتواصلةوها هو أدونيس (علي أحمد سعيد) في ديوانه الأخير “تاريخ يتمزّق في جسد امرأة” (كتب في باريس، بين أواخر كانون الأوّل/ ديسمبر 2005 وأيلول/ سبتمبر 2006)، يسترسل في “نحته الواعي” للعبارات والصيغ والإيقاعات والصور كي تتسع للرؤيا. يستعيد تلك الأرض الخراب التي تحتضن حضارة على شفير الزوال. يصوغ قصيدة دراميّة طويلة على طريقة إليوت ربّما. يستسلم إلى “هجرة لا قـــرار لــــها/ والطــــريق امـــرأة”. نجد الكورس الإغريقي أو الجوقة، والراوية، والرجل.... والبطلة التي تقارب إلكترا وأندروماك وميديه و... مريم العذراء أيضاً”. البطلة امرأة مضطهدة، امرأة وطفلها: “هذه سيرة امرأة عبدة وابنها./ نُفيت، لا لشيء سوى أنّها/ كسرت قيدَها. ويُحكى/ أنّها زُوّجت لنبيّ، وأن ابنها/ صار من بعدها نبيّاً. ولكن/ لم يجئ في تعاليمه/ أنّها حرّرت”.
إنّه كتاب مسكون بالعناصر الأولى، بالغسق والقمر والسماء والنخيل. مسكون بالجسد والشبق والحب الصعب، ونداء الحرية. والكلمات المركّبة، والنبوّة والمجاز: “أتراني أعيش مجازاً/ ولستُ امرأة؟/ خطواتي قيودٌ، ولكن جسمي فضاءٌ./ آه ما أجمل الحياة وسُحقاً لجنّتها المرجأة”. هذا النزوع الصوفي، وثنيّ النبرة في أحيان كثيرة، شبقي بأكثر معاني الشبق تمرّداً وجودياً وعصياناً ميتافيزيقياً: "سأصلّي لجسمي/ لثنيّاته،/ ولنهديَّ مسترسلين. صعوداً هُبوطاً/ إلى كلّ ما جهلته النبوّات فينا”.
إذا صدقنا لعبة أدونيس، وتعاملنا مع نصّه الشعري بصفته “مسرحيّاً” فهناك مخرج واحد بإمكانه أن ينقله إلى الخشبة: إنّه منير أبو دبس. الأصوات متشابهة في نبرتها ووظيفتها الدراميّة ربّما، والبناء العام لا يراعي أي تطوّر درامي. وأبو دبس وحده بوسعه أن يجد مرادفات طقوسيّة لتلك الرؤيا المتشائمة للعالم: “مدن تتشظى ــ مدن ميْتة”، في مكان ما بين مكّة والقدس وزمزم... وبوسعه أن يجسّد تلك اللعبة الذهنيّة القائمة على استقراء التاريخ، داعياً إلى المسرح “موتى تتعانق أرواحهم/ يزورون مكّة والقدس سراً”.
يتقن الشاعر لعبته البرناسيّة إلى حدّ لا يعود من مكان للانفعال، للمتعة... فالحياة بدعة والخراب نبيّ والغواية شمس والمنفى وطن مشتهى، وحتّى الحسيّة والشهوة والشبق تبدو هنا مجرّدة... إننا في عالم الأفكار. وقتل الأب/ السيد/ الرعب/ الرب هو الطريق إلى الحريّة.
أدونيس بطريرك ضد البطريركية، يعرف أن الأنوثة هي الطريق إلى الحقيقة. إنّه نبيّ خارج على النبوّة، وعرّاف لا يقيم وزناً لأحكام القبيلة. يأخذ بطلته إلى ذروة الفاجعة، يتركها “في حالة من العذاب كأنما ليس وراءه إلا الموت”. ثم يترك للجوقة أن تعيد إليه الكلمة عند ذروة المأساة: “إنّها وابنُها/ أسيران في ظلماتٍ، بداياتها لفظةٌ،/ ونهاياتها لفظةٌ./ يقرأ الطالعون من الوحي ما تيسّر منها: زمن بائرٌ ودم نافرُ./ إهدهم إهدهم أيّها الشاعرُ”.