محمد خير
ماذا لو جلست أمام الشاشة، وقارنت بين الأغاني التي قدمتها شادية في أفلامها الشهيرة، وتلك التي يشدو بها مدحت صالح وشيرين في أفلام اليوم؟ لقد لحــق «التشويه» بالأغنية الدرامية ولم تعد سوى فيديو كليب متنكّر

قبل أن يظهر الكاسيت بشكله الحالي، كانت هناك الأسطوانات. وعلى رغم أن الأغنية عادت إلى الأسطوانة التي أصبحت مدمجة فقد أدرك صناع الأغنية العربية دائماً أن الطريق الملكي إلى قلوب المستمعين، يمّر عبر الدراما. هكذا حفلت الأفلام القديمة بأغنيات حليم وشادية، وعبد الوهاب وفايزة، وصباح وفهد البلان، حتى المونولوغ سواء كان صاحبه شكوكو أو اسماعيل ياسين. وعندما ظهر التلفزيون، دخلت الأغنية إلى الدراما التلفزيونية. لكنها استقرّت غالباً عند مقدمة المسلسل ونهايته، في ما اصطُلِح على تسميته بأغنية «التتر». وعلى رغم ازدهار صناعة الكاسيت التي تلاها غزو الفيديو كليب، لم يؤثر ذلك في ارتباط الأغنية بالدراما، بل بات من الصعب أن يقدم فيلم من دون أن يضمّ أغنية او أكثر. ومع الوقت، شهدت هذه الأغنيات تغيرات عدة، أخذتها إلى مقام الفيديو كليب كلاماً ولحناً وتصويراً، حتى بدت كعمل فني مستقلّ عن الدراما السينمائية.
وقبل أن تنزل الأفلام الجديدة إلى دور السينما، وأياً كان الموسم الذي تعرض فيه، تبدأ الفضائيات العربية في بثّ الأغنيات التي تضمها هذه الأفلام، في إطار اتفاق دعائي تبرمه المحطة مع المنتج السينمائي. ويعوّل هذا الأخير على أن تمهّد هذه الكليبات لعرض الفيلم وجذب الجمهور إليه. لكن إلى أي حد تعبّر هذه الأعمال عن مضمون أو روح الفيلم؟
بدأت الظاهرة مع فيلم «اسماعيلية رايح جاي» الذي مهّد لانطلاقة موجة أفلام الكوميديا التي اكتسحت السينما المصرية قبل عشر سنوات. ضمّ الفيلم أغنية ذات كلمات غريبة «كمانّنا». وبمجرد نزوله إلى دور العرض، ومع ظهور بوادر نجاحه الساحق، صدرت الأغنية ضمن ألبوم يحمل الاسم نفسه. وانتشر بائعو الأشرطة بجوار الدور التي تعرض الفيلم، واكتسحت «كامننا» بصوت محمد فؤاد، محلات الكاسيت الرئيسية. وهكذا، حققت الأغنية التي كتبها عنتر هلال نجاحاً كبيراً. واكتشف منتج الألبوم أنه من الممكن أن يستفيد من نجاح الفيلم، ما دام أنتج الكاسيت في موعد متزامن مع نزوله إلى دور العرض.
بعد سنوات قليلة، انتشرت القنوات الفضائية المتخصصة بالغناء ثم بالأعمال السينمائية. وأخذت تقريباً مكان منتجي الكاسيت، وتميزت بالوصول إلى المستهلك في بيته في شكل أسرع. ومع الوقت، استخدمت شعراءها وملحنيها المعهودين في كتابة أغنيات الأفلام، من خلال الشراكة في الإنتاج السينمائي. هكذا أصبح أيمن بهجت قمر وهاني عبد الكريم ومحمد يحيى وعمرو مصطفى ووليد سعد أشهر كتاب وملحني أغاني الدراما، بعد أن كانوا من علامات الكاسيت والفيديو كليب. وباتت شيرين عبد الوهاب، ومدحت صالح وفرقة «واما»، وغيرهم نجوم هذه الكليبات من دون أن يكون لهم دوراً في الفيلم. وفي المحصلة، انطبعت ملامح الكليب على أغنية الدراما، فاختفى الفارق بينهما.
إلا أنك، وعبر مقارنة بسيطة بين أغنية الدراما القديمة والحديثة، ستلمس حتماً ملامح التشويه الذي لحق بالأغنية الدرامية: في أغنيات فيلم «معبودة الجماهير» مثلاً أو «شارع الحب» أو «البريء»، يمكنك بسهولة أن تتذكر الحدث الدرامي الذي استلزم غناءها داخل الفيلم، ومن دون أن يؤثر ذلك في نجاح الأغنيات بحدّ ذاتها. يكفي أن تشاهد أغنية «يا صبر طيب» التي غناها عبد المنعم مدبولي في فيلم «مولد يا دنيا»، لمرة واحدة، حتى تنطبع في ذاكرتك صورة الإسطبل والأداء التمثيلي للسائس الحزين، علماً أن النقاد اعتبروا الأغنية (كلمات مرسي جميل عزيز وألحان بليغ حمدي) عملاً فنياً مستقلاً بذاته. حتى إن مدبولي حاز جوائز عن أدائه «يا صبر طيب». حسناً، أين كل ذلك من أغنية الدراما الـــــــــتي نشاهدها اليوم؟
من يتابع الأغنيات التي تذيعها الفضائيات نقلاً عن أفلام الموسم يلاحظ أنها جميعها متشابهة. هي مكتوبة بصيغة تجعلها تنطبق على الوطن أو الحبيبة أو حتى الأم أحياناً. وُقعّت بالخيال الذي يميز شاعر الفيديو كليب، والذي يحرص على أن تناسب كلماتها أي قصة أو «ديكورات» يقترحها مخرج الأغنية. بل إن «سعر» الكاتب يرتفع كلّما أجاد تقديم كلمات تناسب جميع الظروف. ولأن الإنتاج أصبح يشترط وجود أغنية أو أكثر في الفيلم، فقد أسهم الملحنون في مسخ أغنية الدراما. أما السبب فبسيط: ليس بمقدور نجوم التمثيل الأداء الغنائي، فلا بدّ إذاً أن يكون اللحن بسيطاً من دون عُرب أو مجهود للتنقّل بين الطبقات الصوتية. كما يجب ألّا يضم مقامات موسيقية متنوعة. لا بدّ من أن يكون لحناً يستطيع أي كان أن يؤديه، سواء كان أحمد حلمي أو محمد عطية، ولا مانع بعد ذلك من الاستعانة بمطرب محترف يقدم أغنية واحدة دون أن يظهر في الفيلم. وهنا مثلاً نجاح محمد سعد. بغض النظر عن رأي النقاد فيه، هو إضافة إلى موهبته الكوميدية، يمتلك صوتاً لا بأس به، كما أنه قادر على أداء الأغنيات الشعبية والمواويل أفضل من بعض المطربين المحترفين.
هكذا، أصبحت أغنية الدراما السينمائية عبارة عن فيديو كليب متنكّر، يمكن انتزاعها من الفيلم من دون أن يؤثر ذلك في سياق الدراما. كما أن إذاعتها في التلفزيون لن تحفزّ الجمهور حكماً على مشاهدة الفيلم. إنها فعلاً، كما تعلن عنها الفضائيات، «أغاني أفلام»، وليست «أغاني دراما». أما بالنسبة إلى أغنيات دراما التلفزيون، فلذلك حديث آخر.