باريس ــ عبد الإله الصالحي
“صفقة اللوفر” بين فرنسا والإمارات وصلت إلى مراحلها الأخيرة. “متاحفنا ليست للبيع” ردّ مئات المثقفين والأكاديميين الفرنسيين في عريضة ترفض مشروع إنشاء فرع للمتحف الشهير في جزيرة السعادة الإماراتية


قبل عام تقريباً، سرّبت بعض وسائل الإعلام الفرنسية خبر انطلاق مفاوضات عــــــــالية المستوى بين الحكومة الفرنسية وسلطات أبو ظبي، من أجل إنشاء فرع لمتحف “اللوفر” في جزيرة السعـــــــادة الإماراتية. يومها، لم يثر الخـــــبر أي ردة فـــــــعل تُذكر في الوسط الثقافي الفرنسي. لكن المفاوضات وصلت اليوم إلى مرحلتها النهائية بين الطرفين الإماراتي والفرنسي، وحكومة دومينيك دوفيلبان بدت عاقدة العزم على تمرير الاتفاق قبل الانتخابات الرئاسية في شهر أيار (مايو) المقبل. لذا انفجرت القضية على الساحة العامة في باريس، وتكاد تصبح الفضيحة الثقافية التي ستطبع آخر أيام الرئيس شيراك. وارتفعت الأصوات في الأوساط الثقافية والفنية لتندد بالمشروع معتبرةً بيع اسم اللوفر وماركته صفقةً تجاريةً هي بمثابة كارثة ثقافية وقومية.
«إعارة» لفترات طويلة
الشرارة الأولى أطلقها نصّ ناري نشرته صحيفة “لوموند” في 12 كانون الأول (ديسمبر) الماضي تحت عنوان “متاحفنا ليست للبيع” ووقعته ثلاثة أسماء لها ثقلها في المشهد الثقافي الفرنسي هي: فرانسواز كاشان، المديرة السابقة للمتاحف الفرنسية، وجون كلير المدير السابق لمتحف “بيكاسو”، ورولان ريشت الأكاديمي المعروف والبروفيسور في “كوليج دو فرانس”. عبَّر هؤلاء عن مخاوفهم من بيع مقتنيات وأعمال فنية تملكها المتاحف الفرنسية إلى الخارج، تحت ستار إعارتها لفترات طويلة. كما طالبوا المسؤولين السياسيين بالكف عن “اعتبار المتاحف الفرنسية، وعلى الأخص متحف “اللوفر” خزّاناً يمكن استخدامه حسب الحاجة لدوافع دبلوماسية أو سياسية أو اقتصادية”. لقي النص، على الفور، صدى كبيراً وتحول إلى عريضة وقع عليها حتى الآن أكثر من 2500 شخص من بينهم مدراء متاحف وفنانون ونقاد تشكيليون وأساتذة معروفون في مجال تاريخ الفن.
الحكومة الفرنسية تحاشت في البداية الخوض في الموضوع، تاركةً هذه المهمة لمديرة المتاحف الفرنسية فرانسين مارياني التي ردت على المحتجين في الصحيفة عينها. أكّدت يومذاك أن “الإشعاع الثقافي الفرنسي في الخارج لا بد من أنّ يمرّ عبر عرض المقتنيات الفنية الفرنسية في مختلف أنحاء العالم”. واضافت أنّ “الأمر لا يتعلق ببيع التراث الفني الفرنسي، بل بإعارة نماذج منه للعرض لمدة زمنية محدودة”.
سياسة نفعية
لم يهدئ هذا الرد غضب المحتجين الذين أصروا على أن المشروع يعكس سياسة نفعية تجعل من الفن عملة تبادل اقتصادية ودبلوماسية. بل أكثر من ذلك، ذهبوا إلى حد اتهام الحكومة بسعيها إلى إرضاء سلطات أبو ظبي التي تربطها بباريس علاقات تجارية ممتازة. إذ إن الصادرات الفرنسية إلى الإمارات بلغت العام الماضي 2757 مليون يورو، كما أن أبو ظبي قدمت أخيراً طلبية لشراء 20 طائرة إيرباص، في وقت تشهد فيه شركة الطيران الفرنسية أزمةً خانقةً تهدد بإفلاسها إن تم التراجع عن طلبية بهذا الحجم.
إلا أن استفحال الضجة الإعلامية حول “اللوفر العربي”، واستقطاب العريضة الاحتجاجية للمزيد من التوقيعات، دفع بوزير الثقافة رونو دونُديو دو فابر إلى الخروج عن صمته. لكن الخروج عن الصمت بالنسبة الى الوزير لا يعني التراجع، بقدر ما يعني التنازل النسبي، والكشف عن تفاصيل وحيثيات الاتفاقية درءاً للشائعات... وتفادياً لسوء الفهم. هكذا أعلن الوزير في مناسبة حفلة تقديم تهاني العام الجديد إلى العاملين في وزارة الثقافة، عن الانتهاء من صياغة نص الاتفاقية بين الحكومة الفرنسية وسلطات أبو ظبي، وأكد أنها تنص على التزام فرنسا بإعارة مجموعة من الأعمال الفنية، والمساعدة على تسيير أمور المتحف لمدة 20 عاماً، ابتداء من العام 2012 موعد تدشين فرع “اللوفر” في جزيرة السعادة الذي سيتكلف بتشييده المعماري الفرنسي الشهير جان نوفيل، مصمم بناية “معهد العالم العربي” و”متحف الفنون البدائية”، وغيرهما.
ستضم مساحة اللوفر العربي 24000 متر مربع، منها 6000 مخصصة للمعارض الثابتة، و2000 للمعارض المؤقتة. وستلتزم فرنسا تنظيم هذه المعارض وتزويدها 400 عمل فني من لوحات وتماثيل وأيقونات تُسْتَجلَبُ من المتاحف التي تشرف عليها وزارة الثقافة، على أن يدفع الإماراتيون مقابلها 400 مليون يورو سنوياً. وسيحق لهم أيضاً استخدام اسم اللوفر لمدة عشرين عاماً، مقابل منح فرنسا امتياز تعيين مدير المتحف الذي سيسهر على تسييره حسب التقاليد والأعراف الفرنسية. كما ستلتزم فرنسا تأهيل مدراء متاحف إماراتيين وتدريبهم. أما مبلغ الصفقة فيبلغ 700 مليون يورو. إلا أنّ وزير الثقافة أكد أنّ هذا المبلغ الهائل لن يذهب إلى صناديق الدولة، كما روج معارضو المشروع، بل سيُضخّ كاملاً في صندوق خاص لدعم ميزانيات المتاحف الفرنسية، وخصوصاً “اللوفر” و“متحف أورسي” و“متحف بومبيدو للفن المعاصر”.
أما النقطة الأخــــــــــيرة التي أكد عليها الوزير، فـــهي غياب أي رقابة من الإماراتيـــــــــين على طبيعة الأعمال الفنية حتى تلك التي تشتمل على مشاهد العـــــــــري المثيرة للجدل، أو الرموز الدينية المسيحية. ورداً على المحتجين، أكد الوزير أن المشـــــــروع عملية مربحة للمتاحف الفرنســــــــية، و“مساهمة مهمة في الإشعـــــــــاع الثقافي الفرنسي في الخارج، وفي حوار الحضارات”... وخصوصاً أنّ الإمارات العربية المتحدة بلد معتدل ويملك ما يكفي من المال لتحقيق طموحاته السياحية والثقافية في المنطقة العربية.
اللافت في هذه القضية هو السياسة البراغماتية التي ينتهجها حكام الإمارات العربية المتحدة... فبدلاً من تبذير أموال النفط في التسليح المبالغ فيه أو على موائد القمار، مثل بعض جيرانهم، يجتهدون في تنويع مصادر ثروات بلادهم مراهنين على التربية والتكنولوجيا الحديثة والسياحة. جزيرة السعادة التي ستحتضن مشروع متحف اللوفر، هي محمية طبيعية ستحتضن حسب خطط المسؤولين أربعة متاحف ومدينة للفن، وسلسلة من الفنادق الضخمة. وهذا ما سيجعل منها قبلة سياحية مهمة في منطقة الخليج. أضف الى ذلك أنّ أبو ظبي وقعت اتفاقية مع متحف “غوغنهايم” الشهير لإنشاء فرع له في الإمارة بمبلغ 400 مليون دولار، سيبصر النور هو الآخر في العام 2012. هذا من دون إغفال أن الإمارات دشنت سلفاً “خطة ثقافية فرنسية” طويلة الأمد، بافتتاحها في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي فرعاً لجامعة “السوربون” الباريسية العريقة يعمل حسب النظام التعليمي الفرنسي... ويمنح شهادات مماثلة لتلك التي يمنحها في فرنسا. فهل يصل الإشعاع الثقافي الفرنسي إلى “جزيرة السعادة”؟