بيار أبي صعب
كُتب الكثير في أدب السجون، شعراً ورواية ومذكرات. صوّرت أفلام وحلقات تلفريونيّة... وما زال صوت الشيخ إمام ينبعث من مكان في الذاكرة: “أنا رحت القلعة وشفت ياسين...”. لكن اللغز يبقى كاملاً: كيف يعيش المرء تجربة السجن عقاباً على مواقفه وأفكاره واختلافه؟ هل يعود المعتقل السياسي حقاً من رحلة العزلة والتعذيب والقهر والإذلال؟ ربّما وحدهم الذين عاشوا التجربة، يمكنهم أن يفهموا هذا السرّ. نحن سنبقى غرباء عنها، مهما قرأنا وسمعنا وشاهدنا، ومهما وقّعنا من عرائض.
في فيلم محمد علي الأتاسي “ابن العم”، يروي القائد الشيوعي السوري رياض الترك، خلال فترة حريّته القصيرة، «تقنيّته» للتمكّّن من الاستمرار ومقاومة سجّانيه: «نسيان الخارج». وفي كتابه الجديد «خيانات اللغة والصمت» (دار الجديد، بيروت) يعود الشاعر والصحافي السوري فرج بيرقدار إلى تلك الثنائية القاتلة بين الـ“هنا” والـ“هناك”. كان فرج مجرّد اسم نتداوله عند الحديث عن أنظمة القمع، إلى أن وصلتنا مجموعته “حمامة مطلقة الجناحين” (1997). صار له صوت: “الظلّ متّكئٌ على الأشجارْ/ والذكرياتُ على التعبْ/ لا أنتِ أطلالٌ فأبكيها/ ولا الشعراء مثلي عندما يبكونْ/ رُدّي عليّ الريح/ بعد مرورها بالقمحْ/ الريح سيدة الحقولْ/ الريح سيدة الخيولْ/الريح سيدة القصبْ”. ونقلها إلى الفرنسية الشاعر عبد اللطيف اللعبي الذي يملك بدوره تجربة مريرة في سجون المغرب (1972 ــ 1980).
أطلق سراح بيرقدار عام 2000 بعد “تغريبة” 14 عاماً في السجون السوريّة. جمع الكتابات المهرّبة على أوراق الدخان ومرافعته الشهيرة أمام محكمة أمن الدولة العليا (1992)، ونشرها في بيروت كي يطوي الصفحة. ما زال بيرقدار يؤمن بأن الشعر “أنقذه”، وبأنه الطريق إلى الحريّة. وما زال في السادسة والخمسين يراهن على المستقبل!