القاهرة ـــ محمد خير
  • الفنّ الفلسطيني المعاصر في معرض قاهريّ

    الجيل الجديد في الفنّ الفلسطيني يبحث عن لغة مغايرة، تقطع مع الفولكلور والغنائية والايديولوجيا، وتمزج التقنيات والوسائط... متجاوزةً التصنيفات المتعارف عليها. في هذا السياق تندرج تجربة رؤوف الحاج يحيى الذي يجمع بين الصورة والكومبيوتر والشعر

    ما إن وصل رؤوف الحاج يحيى مرهقاً إلى القاهرة، حتى تلقّى دعوة على الغداء. كانت الدعوة في أحد مطاعم حي “غاردن سيتي” العريق، حيث اكتشف هذا الفنان الفلسطيني أنّ المطعم ملاصق للسفارة الأميركية! ابتسم رؤوف رغماً عنه، فحواجز الشرطة التي استوقفته مراراً حتى وصل إلى الموعد، جعلته يشعر بحنين غير متوقع إلى رام الله!
    في منطقة المنيرة في وسط القاهرة، يستضيف “مركز الصورة المعاصرة” المعرض الأول لرؤوف الحاج يحيى في مصر. الدعم غربي كالعادة، تتولّاه “المؤسسة الثقافية السويسرية”، وعنوان المعرض يستحضر الراهن المؤلم في فلسطين: “إلى غزة مع خالص الخبز”.
    “في الواقع، حتّى في أوج الحصار كان الخبز متوافراً بسهولة” يقول رؤوف. ويتابع: “لكن الصحافة كعادتها تقرر ما يناسبها من عناوين ومفردات، لتشكّل الواقع على هواها”. تحليل العلاقة بين الصحافة والصورة الفوتوغرافية، من الأسس التي يقوم عليها جزء من تجربة هذا الفنان الفلسطيني، فعلاقتهما الوثيقة لا تقتصر على الموضوع المشترك. لقد أثّرت الصحافة في الصورة وحدّدت ملامحها وأهدافها. انتزعت منها فلسفتها الخاصة ووضعتها في خدمة الخبر الصحافي... بمعنى أنّها جعلتها صدى للنص المكتوب، أو تجسيداً لرأي الكاتب.
    التقاط المفهوم
    ينتمي رؤوف الحاج يحيى إلى مجموعة من الفنانين والكتاب والناشطين، هدفها التأمل في أبعاد الثقافة البصريّة وإمكانات الصورة في التعبير. وعمله يقوم عـــــــلى ابتكار أشكال أخرى في التعامل مع الصورة، تنأى بها عن الأهداف المبـــــــاشرة: “الصورة هنا غرضها ليس التقاط اللـــــــــحظة، بل التقاط المفهوم”. يمكن إذاً أن نتحدّث هنا عن عودة إلى المفاهيم الأصلية للصورة الفنية، لكن ضمن مقاربات معاصرة وأطر اختبار حديثة. بعد دراسة فن التصوير في جامعة بيرزيت، ترك الفن المسرحي الذي مارسه في القدس المحتلة، وانهمك في وضع أسس مشروعه الجديد مع مجموعة من الفنانين والكتّاب، منهم عامر الشوملي، بــــــاسل نصر، يزن الخليلي، ضرار أبو قطيش. هكذا خاضوا عدداً من التجارب الفكرية والفنية، وأطلقوا إصدارات ومجلات بقي توزيعها محصوراً في ضوء الواقع الفلسطيني. الحدود والحواجز داخل فلسطين، دفعتهم إلى اختيار أشكال تواصل وتعبير جديدة، فكانت شبكة الانترنت خير بديل وأنسب ملاذ. صارت شاشـات الكومبــيوتر هي وسيلة العرض، وساهــــــــمت التقنية الــــــــتي توفّرها الأجهزة في تطوير أشكال بصرية جديدة، لتمتزج النصوص الأدبية مع “فلاشات” الصور المركّبة، صانعة نصّاً مقروءاً ومرئياً في الوقت عينه.

    في معرض رؤوف القاهري، نكتشف أشكال الكولاج والمونتاج الفوتوغرافي حيث تخرج أرغفة الخبز من مغلفات أو أظرفة البريد السريع، أو ينتشر فتاتها على صفحة جريدة رسمت عليها بالحبر الصيني خارطة فلســــــــطين... وإلى جانب ابتكاراته البصريّة نقرأ نصاً لعامر الشوملي الأستاذ في جامعة بيرزيت: “لا بحر في رام الله ولا خبز في غزة... وننتظر. رام الله... كلنا نرتدي لباس البحر تحت ملابسنا ونعيش أيامنا كالفراشات”.
    في جوار كلمات الشوملي على الشاشة، تومئ وتنطفئ صور رؤوف، تطل فيها أرغفة الخبز من مظاريف البريد السريع أو يباغتك رغيف الخبز ساخناً ومكتوباً عليه “خبز عاجل”... إننا “نعيد إنتاج الصحافة بشكل ساخر” يقول رؤوف. لا يمتلك هذا الفنان الفلسطيني استديو خاصاً به. هو يعمل في منزله فيما وفّر له الإنترنت إمكانات تواصل مدهشة. لكنّ المفارقة أنّ استخدامه لشبكة المعلومات العالمية... لم يكن بهدف الوصول إلى أصقاع العالم وأطرافه. الهدف الأصلي أكثر تواضعاً: تخطي الحواجز بين رام الله وغزة.
    فنّ... لا اسم له
    عندما جاء إلى القاهرة، استخدم شاشــــــــــــــات الكمبيوتر لعرض أعماله. شاشتان بالتحديد أمامهما بضع كـــــــــــراس، يجـــــــــــــــلس الجمهور عليها ليـــــــــــتابع النصوص والصور. اضطر رؤوف إلى تجهــــــــــــــيز أعماله في أحد مقاهي الإنـــــــــــــترنت في وســــــــــط القاهرة، قبل أن يبــــــــــــــدأ المعرض. وكــــــــــانت المفاجأة أنّ صاحب المقهى تـبرّع بالأجهزة والمقاعد ليستــــــــــــخدمها رؤوف في معرضه، على أن يعيدها بعد انتهاء المعرض.
    وكالعادة، حالما ندخل عالم الفنون المعاصرة، تصبح الحدود واهية بين الأشكال الإبداعيّة، وتبدو التصنيفات أكثر صعوبة. لا يمكننا الحديث هنا عن معرض “فوتوغرافي” بالمعنى المألوف. إنّها كتابة جديدة، تمزج عناصر شتّى وتقنيات مختلفة: الصورة والكولاج والمونتاج، الفوتوشوب ــ وهو برنامج كمبيوتري للشغل على الصور الرقميّة ــ يعانق الأدب، اللغة البصريّة تأتي مغمّسة بالشعر إذا جاز التعبير. كل ذلك يعطي فنّاً مغايراً (بديلاً؟) آتياً من فلسطين، أرض كل العذابات... وكل الجراح، من دون خطابات وبكائيات، وأيديولوجيا وشعارات.
    ما اسم ذلك “الفن” ؟ “لا اسم له” يجيب رؤوف الحاج يحيى ويتابع: “ولا أنوي أن أسمّيه. أفعل ما أرغب فيه فقط ولا أدعي أنّني “اخترعت” شيئاً. أتمنّى فقط مزيداً من التواصل مع الشباب المبدعين. لهذا جئت إلى القاهرة، كما أتمنى أن يهتمّ العرب أكثر بالفنون البصرية الحديثة. حتى الآن لا ترحّب إلا أوروبا بمعارض “زان ستديو” الذي أنتمي إليه أنا وغيري من الشباب الفلسطيني. وهو مؤسسة تُعنى بوصل ما انقطع بين أجيال فناني الفوتوغرافيا الفلسطينيين، هذا إضافة الى تخصّصها في تطوير الصورة.

    حتى السابع من شباط (فبراير) في “مركز الصورة المعاصرة” ـــ القاهرة. بالامكان زيارة المعرض على:
    www.zanstudio.com/togaza