strong>حسين بن حمزة
درجت العادة على التمييز بين “أدباء الداخل” و“أدباء الخارج” لدى التعاطي مع الحالة الثقافية العراقية. ومع أن هذا النوع من التمييز قد لا يحقق الإجماع في صفوف المبدعين والمثقفين، إلا أن المنفى الواسع الذي بدأه الكتّاب العراقيون بكثافة ابتداءً من النصف الثاني لسبعينيات القرن الماضي، راح يشكل بالتدريج صورة واضحة تقسّم الثقافة العراقية كلها، وليس كتّابها فقط، إلى قسمين: الكتّاب الذين ظلوا في العراق وهؤلاء الذين آثروا المنفى.
لكن المشكلة لم تكن في جغرافية هذا الانقسام، بقدر ما كانت في التهم والسجالات والتخوينات التي راح يتبادلها الطرفان. ولم تعكس تلك المساجلات حقيقة ما يحدث في الكتابة العراقية التي تعرضت لظروف قاسية في زمن صدام، بل ساهمت في إخفاء تفاصيل لها تأثيرات سلبية جداً في الكتابة ذاتها، لا في المواقع التي ينطلق منها الطرفان المتواجهان...
أدت الحروب المتواصلة لصدام، مصحوبة بالقمع والترهيب والسجون والإعدامات، إلى تفتيت النص العراقي والمسرح والقصيدة والفن العراقي ككل. الكتّاب والمثقفون العراقيون، أنفسهم، لم يستطيعوا أن يؤرخوا بدقة للنصوص التي كتبت سواء في الداخل أو في الخارج. إذ يصعب القيام بتفنيد صحيح ودقيق للأجيال والتيارات والمدارس على امتداد رقعة الإبداع العراقي شعراً وقصة ورواية ومسرحية، خلال تلك الحقبة وما تلاها.
وإذا كان القرّاء العراقيون أنفسهم يواجهون صعوبة في التصنيف، فكيف يكون الأمر بالنسبة إلى القارئ غير العراقي لدى متابعته النتاج العراقي وفرزه وتصنيفه؟. لا بد من إضافة الظروف الفظيعة التي حوّلت الثقافة العراقية، مقسومة بفعل سلطة نظام جائر، إلى شظايا مبعثرة، سواء في منافي اللجوء المتعددة أو في منفى الداخل.
ولعل تجربة القاصّ والروائي عبد الستار ناصر تصلح نموذجاً لهذه المواجهة الحادة بين “داخل” متواطئ يدافع... وخارج “مترف” يتهم : هل من بقي في الداخل نعم بخيرات النظام، أم دفع ثمناً هائلاً بسبب بقائه؟. عبد الستار سبق له أن سُجن سنة واحدة في السبعينيات عقب نشره قصة “سيدنا الخليفة” في مجلة “الموقف الأدبي” السورية. القصة تروي أحداثاً حقيقية، منها نزول الشرطة إلى شوارع بغداد، في تلك الفترة، لتأديب الفتيات اللواتي يلبسن ثياباً قصيرة، والشباب الذين يطيلون شعرهم. لكن الكاتب، في الوقت عينه، من الأدباء الذين ظلوا في العراق، وقد بقي محسوباً كواحد من أدباء الداخل حتى خروجه من العراق عام 1999، حيث نشر روايته “أبو الريش” (2001) التي يمكن اعتبارها نوعاً من تصفية حساب مع النظام السابق.
قد يرى كثيرون أن عبارة الداخل والخارج معزوفة قديمة لم يعد لها معنى، وخصوصاً بعد سقوط نظام البعث في العراق. لكن السؤال الذي سيظل مطروحاً هو: إلى متى ستدوم تأثيرات تلك الحقبة في الثقافة والكتابة العراقيتين؟